الرمز المقدس في حبهم وفي علاقاتهم.
وربما استعار العديد من المتصوفة وشعراء الغزل من الشريف الرضي قلبياته التي ازدان بها شعره، فلطالما كان القلب ملهمه، ومرشده، ومنبع إحساسه. وقد شكا إلى الله ذلك القلب قلبه! الذي كان يناضل من أجل الوصال، فإذا ما وصل كان انقطاعا. لقد كان قلبه مشنوقا بين قطبي التوتر، وكانت نفسه تعرج بين الارتواء والعطش، بين البرد والهجير، بين الخميلة والرمضاء، فصرخت:
أشكو إلى الله قلبا لا قرار له * قامت قيامته والناس أحياء إن نال منكم وصالا زاده سقما * كان كل دواء عنده داء كان قلبي يوم البين طار به * من الرفاع نجيب الساق عداء إن سلطان القلب على الجسم والنفس يقوم عند ما تتحقق العبودية.
فحينما يكون القلب مملوكا للمحبوب، فإنه مستعبد له بفتح الباء لكنه مستعبد بكسر الباء لجسم صاحبه، فيفقد العقل سلطته، وتصبح وظيفة الحواس مبهمة خارج نطاق المحبوب.
ومسألة القلب، إنه معذب في الوصل وفي الهجر، إنه يحمل وجهي المرآة اللذين يرى فيهما الحاضر والغائب، الممكن والمستحيل، البهجة والخوف.
وسواء أكان الحبيب قريبا أو بعيدا فان الشوق يحجز قلب الشاعر كما ذكر:
أقول وقد أرسلت أول نظرة * ولم أر من أهوى قريبا إلى جنبي لئن كنت أخليت المكان الذي أرى * فهيهات أن يخلو مكانك من قلبي وكنت أظن الشوق للبعد وحده * ولم أدر أن الشوق للبعد والقرب خلا منك طرفي وامتلأ منك خاطري * كأنك من عيني نقلت إلى قلبي إن صلة العين بالقلب، أعقد من أن يدرك بعدها الحقيقي، وطوبى لمن كان له عين في قلبه كما أورد الشبلي.
فعين المحبوب تسكر قلب المحب، ويحار المحب بين سكرة قلبه وانكسار عينه أمام سطوة جمال المحبوب، فيصبح قابلا للعبودية، مكتشفا بذلك أسرار الحرية، فقال في بعض قلبياته:
هل ناشد لي بعقيق الحمى * غزيلا مر على الركب أفلت من قانصه غرة * وعاد بالقلب إلى السرب وأظمأ القلب إلى مالك * لا يحسن العدل على القلب يعجب من عجبي به في الهوى * واعجبي منه ومن عجبي أقرب بالود وينأى به * ويلي على بعدك من قرب منعم يعطف منه الصبا * لعب الصبا بالغصن الرطب بلادة النعمة في طبعه * وربما ناقش في الحب أما اتقى الله على ضعفه * معذب القلب بلا ذنب يا ماطلا لي بديون الهوى * من دل عينيك على قلبي ويختار القلب عبودية الحب، فيقلد المحبوب وسام الامارة، ويمنحه حق التصرف، واجدا في الطاعة سعادته الكبيرة. إن العبودية في حضرة المحبوب هي حرية المحب، أو طريقة لاكتشاف حريته التي معنى لها بحروفها ككلمة، بل هي معروفة بمضمونها، بمقدار ما يتهيأ للقلب من استبشار، ورضا، وسرور، فقال في بعض غزله:
رماني كالعدو يريد قتلي * فغالطني وقال أنا الحبيب وأنكرني فعرفني إليه * لظى الأنفاس والنظر المريب وقالوا أطععت وكيف أعصي * أميرا من رعيته القلوب ولأن الهموم الطائلة تناوشت نفس الشريف الرضي، فان قلبه أضحى مثل طير كريم أضناه العطش، يبحث عن عين ماء، ما أن يريد الارتواء منها حتى يغيض ماؤها، أو تجف، أو تطمرها الكثبان الهائجة.
ولم يحظ تساؤل بتلك النبرة الطولانية التاسعة مثل تساؤل الشريف الرضي عن هموم قلبه، وهو يتخاطب:
ما للهموم كأنها * نار على قلبي تشب ألأجل ما حمل القلب من الحب، أصبح وجيبه شعرا؟ وأصبحت ناره أكبر من نار الغضا حتى أضحت الاستعارة بين القلب والنار إشعارا بان الجسم كله! في حالة احتراق، وحكم بالأعدام ينفذ يوما بعد يوم، ترى أي قلب ذاك الذي كان يطلب الاقتداح به بدل الزناد:
يا قادحا بالزناد * مر فاقتدح بفؤادي نار الغضا دون نار القلوب * والأكباد وقال الشريف الرضي العديد من القصائد المشبعة بالاغتراب المكاني المرافق للاشتياق الباكي ومنها هذه القصيدة التي قالها في شهر ربيع الآخر سنة 392 ه:
أقول وقد حنت بذي الأثل ناقتي * قري لا ينل منك الحنين المرجع تحنين ألا أن بي لا بك الهوى * ولي لا لك اليوم الخليط المودع وباتت تشكى تحت رحلي ضمانة * كلانا إذا يا ناق نضو مفجع أحست بنار في ضلوعي فأصبحت * يخب بها حر الغرام ويوضع أروح بفتيان خماص من الجوى * لهم أنه في كل دار وأدمع إذا غرد الركب الخفي تأوهوا * لما وجدوا بعد النوى وتوجعوا على أبرق الحنان كان حنيننا * وبالجزع مبكى أن مررنا ومجزع تزافر صحبي يوم ذي الأثل زفرة * تذوب قلوب من لظاها وأدمع منازل لم تسلم عليهن مقلة * ولا جف بعد العين فيهن مدمع فدمع على بالي الديار مفرق * وقلب على أهل الديار موزع أرى الياس حتى تعزم النفس سلوة * ويرجع بي داعي الغرام فأطمع ذكرت الحمى ذكر الطريد محله * يذاد العاطشات ويرجع وأين الحمى لا الدار بالدار بعدهم * ولا مربع بعد الحنين مربع سلام على الأطلال لا عن جناية * وان كن يأسا حين لم يبق مطمع فيا قلب أن يفن العزاء فطالما * عهدتك بعد الطاعنين تصدع وقد كان من قلبي إلى الصبر جانب * فقلبي بعد اليوم للصبر اجمع نعم عادني عيد الغرام ونبهت * علي الجوى دار بميثاء بلقع وطارت بقلبي نفحة غضوية * ينفسها حال من الروض ممرع أصد حياء للرفاق وإنما * زمامي منقاد مع الشوق طيع نظرت الكثيب الأيمن اليوم نظرة * ترد إلي الطرف يدمي ويدمع في قصيدة غزل واحدة، تقدست روحه، تنتشر المفردات المأساوية التي تخبرك بعذابات المتعذب: الألم، الجوى، المصدوع، الوقوع، الظما،