ما مقامي على الجداول أرجوها * لنيل وقد رأيت البحارا وكان يشدد على نفسه الحساب، عند ما يتذكر علو رسالته، وقداسة هدفه. وإذا ما كانت للشريف الرضي في الشعر صبوات هائلة لكونه شاعرا عظيما، فان مطالب رسالته السياسية كانت أهم لديه من الشعر، بل إنه أخبر عن أنه قال الشعر ذريعة إلى أمل كبير، ما إن يتحقق حتى يهجر الشعر:
وما قولي الأشعار إلا ذريعة * إلى أمل قد آن قود جنيبه وإني إذا ما بلغ الله غاية * ضمنت له هجر القريض وحوبه وإن يستصغر أحيانا حرفة الشعر، بسبب قداسة رسالته، وطموحه الديني والسياسي الكبير فيقول:
وما الشعر فخري ولكنما * أطول به همة الفاخر أنزهه عن لقاء الرجال * وأجعله تحفة الزائر فما يتهدى إليه الملوك * إلا من المثل السائر وإني وإن كنت من أهله * لتنكرني حرفة الشاعر وكذلك قال:
ما لك ترضى أن يقال شاعر * بعدا لها من عدد الفضائل كفاك ما أورق من أغصانه * وطال من أعلامه الأطاول فكم تكون ناظما وقائلا * وأنت غب القول غير فاعل ولم يعلن فقط اعتذاره عن حرفة الشعر واستعداده لهجر نظم القصائد، وهو شاعر الحب والهوى لأن شعاره هو:
من يعشق العز لا يرنو لغانية * في رونق الصفو ما يغني عن الكدر وهو في انتمائه لقضيته الكبرى، كان يشدد على حاجته إلى الحزم، والحزم يستبعد الهوى:
أضعت الهوى حفظا لحزمي وإنما * يصان الهوى في قلب من ضاع حزمه ترى، أية قضية تلك التي تتمحور حولها أفكار وأشعار الشريف الرضي، والتي يدور حولها مسار حياته؟ أية قضية تلك التي يعلن أن الشعر والحب دونها بكثير، وأنه مستعد للأضراب عن الشعر والحب من أجل تحققها؟.
هل هي المنصب الذي يتولى من خلاله تأدية مسؤولية معينة، في زمن البويهيين الذين استمالوا عددا من الشعراء والكتاب واستوزروهم أو قلدوهم بعض المناصب العالية؟.
في الواقع كان للشريف الرضي منصبه المرموق فقد شغل منصب نقابة الطالبيين، ونظر في المظالم، وحج بالناس مرارا، وأنه تسلم هذه الأعمال في أوقات مختلفة نائبا عن والده أبي أحمد الموسوي أو مستقلا بالمنصب.
أما إمارة الحج فكانت هي الأخرى من المناصب التي تدل على نفوذ الشريف الرضي وقوة شخصيته، فقد كانت تحتاج إلى رجل يفرض زعامته وهيبته واحترامه على جمهور المسلمين، ويستطيع حمايتهم في صحراء واسعة يبتعدون فيها عن مركز السلطة، ويتعرضون لمخاطر الغزو والسلب، وقد حج الشريف بالناس مرارا، وخالط البدو، وعاش حياة الصحراء، وعانى متاعبها ومخاطرها، فاثرت في نفسه، وحمل منها ذكريات.
ففي سنة 389 ه حج الشريف بركب العراق مع أخيه المرتضى واعتقلهما ابن الجراح فافتديا نفسيهما بتسعة آلاف دينار.
وفي سنة 396 ه تولى نقابة الطالبيين بالعراق، وذكر البعض أنه تقلد النقابة وإمارة الحج، ولكن في السنة التي تلت.
أما في سنة 403 ه فقد قلد الشريف نقابة الطالبيين في سائر الممالك، وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك، وخلع عليه السواد، وقيل إنه أول طالبي يخلع عليه السواد.
ولم يكن الشريف الرضي يرى في النقابة هدفه النهائي، غير أنه كان يراها حقا موروثا، فقال:
قل للعدا موتوا * بغيظكم فان الغيظ مردي ودعوا علي أحرزتها * يا وادعين بطول جهد كم بين أيديكم * وبين النجم من قرب وبعد ولي النقابة خال أمي * قبل ثم أبي وجدي وليتها طفلا فهل * مجد يعدد مثل مجدي وأظن نفسي سوف تحملني * على الأمر الأشد حتى أرى متملكا * شرق العلى والغرب وحدي وفي قصيدة أخرى يرد فيها على قلق بعض أعدائه من تقلده النقابة، أفصح فيها عن هدفه الأكبر فقال:
قلق العدو وقد حظيت برتبة * تعلو عن النظراء والأمثال لو كنت أقنع بالنقابة وحدها * لغضضت حين بلغتها آمالي لكن لي نفسا تتوق إلى التي * ما بعد أعلاها مقام عال إن الشاعر الهادر الذي ينطوي صدره على شرف رفيع وكرامة عظيمة، كان يعرف مقامه جيدا، وكان يسير في الزمن وكأنه يخفي مقامه الحقيقي عنه، لأنه متوجه نحو غايته الكبرى، ورسالته التي لا يستطيع نسيانها.
فقال:
تعرفني بأنفسها الليالي * وآنف أن أعرفها مكاني لكن مكانه ليس في منصب، أو وظيفة، بل في العلى الذي لم يكن بالنسبة إليه ترجمة عادية للتباهي، بل كان العلى بمعنى قيادة السلطة، فقد كان الرضي يرى نفسه جديرا بالخلافة.
وفي غالبية شعر الشريف يبدو ذلك الاحساس الغامر الذي يستولي عليه، وهو الاحساس بأنه منذور للسلطة، ومهيا لدور قيادي عظيم، لا بد أن يأتي حينه.
ومنذ حداثته عبر عن ذلك، لا بالتلميح، بل بالجهر المدوي:
ستعلمون ما يكون مني * إن مد من ضبعي طول سني أأدع الدنيا ولم تدعني * يلعب بي عناؤها المعني ناطحة بالجم عام القرن * نطاح روق الجازئ الأغن وسعت أيامي ولم تسعني * أفضل عنها وتضيق عني ولي مضاء قط لم يخني * ضمير قلبي وضمير جفني