العملاق، لكن بآية صورة؟!.
رآه شاحب اللون، هزيل الجسم، قد نالت ظلمات الاعتقال منه، ولا يعلم إلا الله كيف خفق قلب ذلك الفتى حين رأى أباه، فقد كان لا يزال طفلا، وكانت المعاني السود والبيض تلذع قلبه لذعا عنيفا، والعواطف العاصفة لا يعرفها غير الأطفال.
فكانت قصيدة الاستقبال مشوبة بكل الانفعالات المتعارضة:
طلوع هداه إلينا المغيب * ويوم تمزق عنه الخطوب لقيتك في صدره شاحبا * ومن جلية العربي الشحوب إليه تحج النفوس الصدور * وفيه تهني العيون القلوب تعزيت مستأنسا بالعباد * والليث في كل أرض غريب وأحرزت صبرك للنائبات * وللداء يوما يراد الطبيب لحا الله يوما أرانا الديار * يندب فيها البعيد القريب وما كان موتا ولكنه * فراق تشق عليه الجيوب لئن كنت لم تسترب بالزمان * فقد كان من فعله ما يريب رمى بك والأمر ذاوي النبات * فال وغصن المعالي رطيب ولما جذبت زمام الزمان * أطاع ولكن عصاك الحبيب ولما استطال عليك الزمام * وذلل فيك المطي اللغوب رجوت البعاد على أنه * كفيل طلوع البدور الغروب رحلت وفي كل جفن دم * عليك وفي كل قلب وجيب ولا نطق إلا ومن دونه * عزاء يغور ودمع ربيب وأنت تعللنا بالإياب * والصبر مرتحل لا يؤوب وسر العدا فيك نقص العقول * وأعلم أن لا يسر اللبيب أما علم الحاسد المستغر * أن الزمان عليه رقيب قدمت قدوم رقاق السحاب * تخطر والربع ربع جديب فما ضحك الدهر إلا إليك * مذ بان في حاجبيه القطوب إن الألم في حياة الرضي، والذي يعكسه شعره بجلاء تام، أصبح أكثر من حالات نفسية حزينة، بسبب حوادث مؤلمة، لقد أصبح خبرة متميزة، لها خطوطها الطويلة والعريضة، وجذورها العميقة، وآثارها البارزة.
ورغم الأوقات السعيدة التي كانت تعقب فترات العناء والشدة والحزن الممض، فقد أصبحت للألم في حياة الشريف الرضي فلسفة متناثرة في شعره.
ولم تكن أوقات الفرح بقادرة على خداعه، مع أنه لا يخفي سعادته، وكانت فرصة رد الأعمال القديمة إلى والده وهي النقابة وإمارة الحج والنظر في المظالم، وذلك في جمادى الأولى سنة 380 مناسبة لتهنئة والده وإبداء الفرحة، فقال:
انظر إلى الأيام كيف تعود * وإلى المعالي الغر كيف تزيد وإلى الزمان نبا وعاود عطفه * فارتاح ظمآن وأورق عود قد عاود الأيام ماء شبابها * فالعيش غض والليالي غيد لكن الحكمة المبثوثة في أبيات القصيدة، هي نتاج الألم وخبرته، وهي التعبير عن النهج النقدي المرير الذي لازم شعر الشريف الرضي، وزوده بعناصر الثورة، لذلك فهو يذكر:
ما السؤدد المطلوب إلا دون ما * يرمي إليه السؤدد المولود فإذا هما اتفقا تكسرت القنا * إن غالبا وتضعضع الجلمود وأجل ما ضرب الرجال بحده * الأعداء مجد طارف وتليد وبلا شك أن طريق السؤدد المولود مليء بالأحزان، والمتاعب، وهي أكبر بكثير من مشقات وتضحيات السؤدد المطلوب، بمعنى أن الآلام القادمة والتي تنتظر حياة الشاعر هي قدره المحتوم، وما دام غير قانع بالمكاسب المحدودة، فهو مقتنع بالعذاب الذي لا بد منه.
إن التعاسات أفضت بالشريف الرضي إلى اغتراب يتفجر حكمة وبعد نظر.
الاغتراب الروحي في حياة وشعر الشريف الرضي إن العناصر الأساسية المكونة للاغتراب الروحي في التجربة الحياتية والشعرية للشريف الرضي هي أولا: الأصل الفجائعي للسلالة الهاشمية، وأهل بيت النبي بالذات، والذي يشكل خلفية تاريخية مأساوية تهطل منها معطيات أدبية وفلسفية في البلاء، والعزاء، والاصرار الدائم على تلمس الجذور الدامية للمأساة.
وتشاء الخلفية التاريخية هذه أن تكون تأثيراتها قبل الولادة، لأنها تجري في الدم وفي حركة الأعصاب، وفي الموروثات العضوية، قبل التوارث الروحي والثقافي الذي تنقله الطقوس والتقاليد الدينية والاجتماعية.
ثانيا: الزهد والمعرفة الدينية، وهما من سمات السلالة ومن إرثهما المنقول من الآباء إلى الأبناء.
وقد بينت صحف التاريخ الاسلامي أن آباء وأجداد الشريف الرضي كانوا أوعية للعلم والمعرفة الربانية، وكانوا زهادا، عابدين، قانتين، شغلتهم مناجاة الله عن المطامع الدنيوية الرخيصة، ولم يكن لأحدهم إعراضا عن حقهم في السعي من أجل نشر العدل في الحياة الدنيا، بل هو تعبير عن وحدة ذلك الحق مع الفقر، لأن العدل لا ينشأ إلا من القاع الاجتماعي، والبساطة، والتواضع، ورفض الثراء والجاه والغرور الزائف.
ومما زاد ويزيد في زهد العارفين، القانتين، والأئمة الأعلام، الطهورين، تفاقم الفساد والاحتيال والغدر، وهدر الأخلاق، وسيادة منطق القوة والقهر والابتزاز والارشاء، وكل المباذل التي تهوي بالمجتمع إلى الحضيض. فكلما تزداد كفة الميزان ميلان لصالح الفساد، فان العلماء يزدادون زهدا واحتماء بالدين والقيم الروحية.
وفي عصر الشريف الرضي، تعرض الوجود العربي، إلى مؤثرات قوية، ووجدت طبقة ممعنة في الترف والنعيم وطلب المسرات والخروج بها إلى حد الشذوذ، ولعل من أسباب ذلك، ما طرأ على هذا العصر من ضعف الوازع الديني، ومن فساد الأسرة بسبب الاختلاط والتزاوج، وبسبب كثرة القيان وإباحة المنكرات، والتعلق بمظاهر الحياة المادية تعلقا شديدا مفرطا. فقد رأى هذا العصر سيلا هائلا من العناصر الدخيلة، كما نشطت فيه تجارة الرقيق،