من حق أبيك، لأني حفظتك كتاب الله تعالى، فقبلها.
إن فترة سجن السيد أبي أحمد الموسوي في قلعة فارس امتدت من سنة 369 إلى سنة 376 وكانت التعاسة الأولى التي أججت كل ما هو كامن من شعور فجائعي، وتمردي في نفس الرضي، وأضيف إليها التعاسة الثانية وهي مصادرة أملاك والده وتعريض العائلة للعوز والحرمان.
ولعل إهداء الدار إليه من قبل أستاده إبراهيم بن أحمد الطبري خير بلاغ عن الفاقة التي آل إليها الشريف الرضي، على ما عرف عليه الشاعر من إباء، وترفع، وكبرياء رافقته منذ الصغر، ولم تخنه على الكبر. وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: أما ترفع الشريف وأنفته وارتفاعه فوق المطامح المادية فمشهور، وقد عرف عنه أنه لم يقبل هدية من أحد. ولم ينس الشريف الرضي استفزاز المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة لوالده حين القبض عليه، إذ قال له: كم تدل علينا بالعظام النخرة مستهينا بذلك بالسلالة الطاهرة الشريفة، وأصلها الكريم. وقد كان للإهانة طعم خارق، لاذع، لم يتمكن الشاعر من نسيانه أبدا.
وتفعل المأساة فعلها الكبير في نفس الشاعر، وسنه فوق العاشرة بقليل، فيذكر أباه في قصيدة يقول فيها:
نصافي المعالي والزمان معاند * وننهض بالآمال والجد قاعد تمر بنا الأيام غير رواجع * كما صافحت مر السيول الجلامد وتمكننا من مائها كل مزنة * وتمنعنا فضل السحاب المزاود وما مرضت لي في المطالب همة * وأحداثه في كل يوم عوائد عوائد هم لا يحيين غبطة * بهن ولا تلقى لهن الوسائد ولله ليل يملأ القلب هوله * وقد قلقت بالنائمين المراقد وتعز فما كل المصائب قادم * عليك ولا كل النوائب عائد ينال الفتى من دهره قدر نفسه * وتأتي على قدر الرجال المكايد فدى لك يا مجد المعالي وبأسها * فعال جبان شجعته الحقائد فما تركت منك الصوارم والقنا * ولا أخذت منك الحسان الخرائد عزلت ولكن ما عزلت عن الندى * وجودك في جيد العلى لك شاهد بوجهك ماء العز في العزل ذائب * ووجه الذي ولى من الماء جامد فأنت ترجي الملك وهو زواله * بغير جلاد فيه وهو مجالد فلا يفرح الأعداء فالعزل * معرض إذا راح عنه صادر جاء وارد وما كنت إلا السيف يمضي ذبابه * ولا ينصر العلياء من لا يجالد ثم يحمل على المستفز الشاتم وزير عضد الدولة:
يدل بغير الله عضدا وناصرا * وناصرك الرحمن والمجد عاضد تعير رب الخير بالي عظامه * ألا نزهت تلك العظام البوائد ولكن رأى سب النبي غنيمة * وما حوله إلا مريب وجاحد ولو كان بين الفاطميين رفرفت * عليه العوالي والظبي والسواعد إن جرح الإهانة أثار فيه سخطا على الدولة ووزيرها، ولذلك انطلق التحدي شعرا، وعرض بالخليفة العباسي، ولوح له بعظمة الفاطميين في مصر، وكان ذلك يومئذ من المحظورات.
وأضاف في قصيدته:
وما والد مثل ابن موسى لمولد * قريب تجافاه الرجال الأباعد حمى الحج واحتل المظالم رتبة * على أن ريعان النقابة زائد فاقبل والدنيا مشوق وشايق * وأعرض والدنيا طريد وطارد وساعده يوم استقل ركابه * أخوه وقال البين نعم المساعد هما صبرا والحق يركب رأسه * عشية زالت بالفروع القواعد تفرد بالعلياء عن أهل بيته * وكل يهاديه إلى المجد والد وتختلف الآمال في ثمراتها * إذا أشرقت بالري والماء واحد إن حب الشاعر لأبيه تجسيد مكثف لعدة أشكال ودرجات من الحب، فهو حب الابن للأب، وحب التلميذ للأستاذ، وحب المؤمن بزعامة الزعيم للزعيم، وحب الذات للأنموذج الذي تسعى إلى أن تسير على هداه وتكون بصورته. ففي قرارة نفس الشريف الرضي ترعرع طموح مشروع في أن يكون زعيما كأبيه.
فتفتق الحب عن أكثر من أربعين قصيدة مدح لأبيه.
ويشير زكي مبارك إلى أن أشعار الشريف الرضي في مدح أبيه تنقسم إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى في التوجع لأبيه وهو سجين، والطائفة الثانية في تهنئة أبيه بالخلاص ورد أملاكه إليه، والطائفة الثالثة في تهنئته بالأعياد بعد أن لان الزمان. ولكل طائفة من هذه الأشعار خصائص: فالطائفة الأولى تصور الحزن والجزع والتفجع، والثانية يغلب عليها الابتسام ولكنها تفيض بالسم الزعاف في الثورة على الناس، والثالثة تخلع على أبيه رداء الملوك. فهو يدخل عليه في كل عيد بقصيدة كما يصنع الشعراء في تحية الخلفاء والملوك.
إن حب الشريف الرضي لوالده كان انتماء عظيما للأب وللقضية وللنفس في آن واحد.
وحينما أطلق سراح والده ومعه عمه، وقدم من فارس إلى بغداد، فان روح الشاعر كانت ترافق الوالد في عودته مرحلة مرحلة، ولكل مرحلة كان يعد لها شعرا وكلمات. وذلك يدلل على الغصص التي حبست في صدره، والتي أخذ يطلقها حينا بعد حين، مع مسيرة عودة أبيه من المنفي والسجن.
فمثلا هناك قصيدة وجهها إلى أبيه وأنفذها إليه قبل دخوله بغداد بأيام يسيرة على يد بعض أصحابه، فهو كان يعرف معنى التحية، تحية الراجع إلى وطنه وهو في الطريق، كما نرسل برقيات التحية في هذه الأيام ليفرح بها القادمون وهم على متون البواخر، وهذه القصيدة ليست من الطوال، ولكنها على قصرها تصور شوقه إلى أبيه وهو نبت ضعيف، ويشير إلى ما صنعت به الأيام، فيقول في آخر القصيدة:
لما ذكرتك عاد قلبي شوقه * فبكين عنه مدامع الأقلام خلفتني زرعا فطلت وإنما * ذاك الغرار نمى إلى الصمصام أكدت علي الأرض من أطرافها * وتدرعت بمدارع الاظلام وعهدتها خضراء كيف لقيتها * أبصرت فيها مسرحا لسوامي أشكو وأكتم بعض ما أنا واجد * فأعاف أن أشكو من الاعدام وعند ما وصل أبوه، ذلك الأمير الحقيقي، والذي شمخت صورته في حلم الرضي، كانت الصعقة الوجدانية كبيرة، فقد رأى الشاعر أباه