وجدانه من نبض عربي يساير الأحداث وينفعل بها... وهو مع ذلك يسخر بهؤلاء الذين يجبنون عند القتال ولكنهم يشجعون في الحديث عن القتال، ويتظاهرون بالحمية والأنفة، ولكن التجربة تذهب بحميتهم وأنفتهم...
وهو إلى ذلك يسأل في مرارة وحرقة: ما الحياة ونفسي، وقد علمت هذه النفس أن الحياة على غير ما تشتهي ليست سوى دنس... ثم هو ينفي الجمال عن وجه يلين أنفه ويخنع ويذل، ويرى أن العزيز كالمقطوع أنفه حين ينقطع عنه عزه...
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه * وأترك الغيث في غمدي وانتجع؟
والمشرفية، لا زالت مشرفة، * دواء كل كريم أو هي الوجع وفارس الخيل من خفت فوقرها * في الدرب، والدم في أعطافها دفع وأوحدته وما في قلبه قلق * وأغضبته وما في لفظه قذع هذا شعر شاعر تضج النكبة في صدره وفي دمه، وتحس أنت، حين تقرأ هذا الشعر، أن النكبة تضج في صدرك وفي دمك كذلك، فالمتنبي إذن صاحب قضية هنا، وليس صاحب أمير يزجي إليه القصيد إزجاء لينال بره أو ليثير إعجابه... وهو هنا شاعر أمة لا شاعر أمير...
وتستطيع أنت، بعد هذا، أن ترجع إلى ديوان المتنبي بنفسك، تقرأ قصائده في سيف الدولة كلها، وتتعمق هذه القصائد، وتتأمل أغراضها، وتتذوق فنها الرفيع، ثم ترى: أكان المتنبي مجرد شاعر يطلب ضيعة أو ولاية أو رفدا كيفما جاءه الرفد ومن أي مصدر أتاه، أم كان صاحب نزعة قومية ثورية، بالمعنى الذي أوضحناه أول الفصل... ثم ترى: أكان المتنبي مجرد صانع كلام مقفى موزون، ماهر الصنعة، أم كان إلى ذلك شاعر ثورة وعاطفة وهدف كبير؟...
وأنت تستطيع بعد هذا أيضا أن ترجع إلى قصائد المتنبي في مدح كافور نفسه، بعد أن ألجئ إلى فراق سيف الدولة، تقرأها كذلك وتتعمق روحها وتتأمل أغراضها وتتذوق فنها، ثم ترى: أكان المتنبي يحن حنينه ذاك إلى سيف الدولة، ويعتب عليه عتبه ذاك الناضح دما وحبا وأسى، لمجرد أن سيف الدولة كان يحسن تقديره وبره، أم لأن سيف الدولة قد أروى وأشبع في المتنبي عروبته وثوريته وشاعريته؟...
المرحلة المأساة في حياة المتنبي:
المرحلة التي انفصل فيها أبو الطيب عن صديقه المفضل، الأمير الحمداني سيف الدولة، واتصل فيها بأمير مصر كافور الإخشيدي عام 345 ه، هي المرحلة المأساة في حياته.
لقد فجع المتنبي، يومئذ، بأعز علاقاته الإنسانية، وأسمى تجربات حياته، وأنبل قرابة وجدانية بينه وبين الناس، فضلا عن فجيعته حينذاك بتلك الطمأنينة الروحية والمادية التي لم يتذوق مثلها في مراحل عمره جمعاء...
وفي الحقيقة أن انفصاله عن سيف الدولة لم يكن يعني انتهاء مرحلة وابتداء مرحلة، بل كان يعني في نفس الشاعر تحول معنى المرحلة نفسها من الطمأنينة إلى القلق العارم، ومن الغبطة والسعادة إلى الكدر والألم والتمزق النفسي...
ومعنى ذلك أن المرحلة الأخيرة لم تكن مرحلة مستقلة عن سابقتها. بل هي امتداد لها، ولكن بوجه جديد عابس قاتم مثخن بالجراح...
فالمتنبي لم ينفصل عن سيف الدولة روحيا ووجدانيا حين غادر بلاطه وغادر صحبته في دولته ومعارك جهاده، وإن انفصل عنه ماديا وجسديا...
لقد ظل مرتبطا بمرحلته السابقة وبأميره المفضل، ولكن ارتباط ألم وعتب وحنين وتفجع... فقد راح إلى دمشق، ثم إلى الرملة، وهو ينظر بقلبه ووجدانه وقضيته الكبرى إلى الوراء... إلى حلب... إلى رحاب سيف الدولة... إلى معارك الحدود والثغور... إلى هزج الفرسان وصليل السيوف وهدير القتال وعظائم الانتصارات وتدارك الهزائم... بينما ينظر بعينه وبحاجته ومطامحه المحرجة، إلى أمام... ولكن أين؟...
لقد كان في نفسه، وهو يغيب عن وجه الأمير الحمداني الذي خذله واستمع إلى أقاويل حساده وخصومه... لقد كان في نفسه حينذاك أمران اثنان:
الأول: أن يجد المكان الذي يسع مطمعه كطالب ضيعة أو ولاية يستريح إليها بعد كفاح طويل، وتغنيه عن بيع شعره في سوق الكساد من جديد...
الثاني: أن يجد وجوده كشاعر يملأ الدنيا ويشغل الناس، بعد أن رأى وجوده هذا قد فقد مكانه المطمئن المفضل الذي وجده في ظل الأمير الحمداني، وهو يطوي في ضميره رغبة جارفة في أن يغيظ سيف الدولة، ويثير غيرته وحميته وندمه إذا وجد المكان الجديد الذي يرجو في ظل أمير جديد ينافس سيف الدولة...
وكان كافور الإخشيدي، حاكم مصر يومئذ وخصم أمير حلب، هو الأمير الذي تطلع إليه المتنبي، أول ما تطلع، حين أرغمه كيد الكائدين على أن يولي ظهره لسيف الدولة...
كان يتطلع إلى مصر وكافورها، وهو يرجو أن يحقق بذلك كلا الأمرين معا: مكان مطمعه، ومكان شاعريته، ليستريح، وليغيظ أميره الذي فارقه مرغما وظل متصلا به روحا ووجدانا.
وفي الوقت نفسه كان الإخشيدي كافور هو أيضا يرقب هذه الفرصة ليضع يده على الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لكي يملأ به دنياه ويشغل به أعداءه... وكان سيف الدولة هو الشبح الذي يتجسد فيه كل عداوات كافور، وكان القبض على يد المتنبي يعني، في نفس كافور، القبض على سنان الرمح الذي يطعن به كبرياء سيف الدولة، ويثير حنقه، ويهيج أعمق مشاعر المنافسة في سويداء قلبه...
هكذا تلاقت الرغبتان: رغبة المتنبي، ورغبة كافور، وإن اختلفت أسبابهما وأهدافهما...
وفي حين كان المتنبي ينتظر الفرصة لبلوغ مأربه، وهو عند أمير الرملة بفلسطين جاءته الدعوة من كافور إلى مصر... فخف إليه مستجيبا لدعوته،