مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٢٦
وجدانه من نبض عربي يساير الأحداث وينفعل بها... وهو مع ذلك يسخر بهؤلاء الذين يجبنون عند القتال ولكنهم يشجعون في الحديث عن القتال، ويتظاهرون بالحمية والأنفة، ولكن التجربة تذهب بحميتهم وأنفتهم...
وهو إلى ذلك يسأل في مرارة وحرقة: ما الحياة ونفسي، وقد علمت هذه النفس أن الحياة على غير ما تشتهي ليست سوى دنس... ثم هو ينفي الجمال عن وجه يلين أنفه ويخنع ويذل، ويرى أن العزيز كالمقطوع أنفه حين ينقطع عنه عزه...
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه * وأترك الغيث في غمدي وانتجع؟
والمشرفية، لا زالت مشرفة، * دواء كل كريم أو هي الوجع وفارس الخيل من خفت فوقرها * في الدرب، والدم في أعطافها دفع وأوحدته وما في قلبه قلق * وأغضبته وما في لفظه قذع هذا شعر شاعر تضج النكبة في صدره وفي دمه، وتحس أنت، حين تقرأ هذا الشعر، أن النكبة تضج في صدرك وفي دمك كذلك، فالمتنبي إذن صاحب قضية هنا، وليس صاحب أمير يزجي إليه القصيد إزجاء لينال بره أو ليثير إعجابه... وهو هنا شاعر أمة لا شاعر أمير...
وتستطيع أنت، بعد هذا، أن ترجع إلى ديوان المتنبي بنفسك، تقرأ قصائده في سيف الدولة كلها، وتتعمق هذه القصائد، وتتأمل أغراضها، وتتذوق فنها الرفيع، ثم ترى: أكان المتنبي مجرد شاعر يطلب ضيعة أو ولاية أو رفدا كيفما جاءه الرفد ومن أي مصدر أتاه، أم كان صاحب نزعة قومية ثورية، بالمعنى الذي أوضحناه أول الفصل... ثم ترى: أكان المتنبي مجرد صانع كلام مقفى موزون، ماهر الصنعة، أم كان إلى ذلك شاعر ثورة وعاطفة وهدف كبير؟...
وأنت تستطيع بعد هذا أيضا أن ترجع إلى قصائد المتنبي في مدح كافور نفسه، بعد أن ألجئ إلى فراق سيف الدولة، تقرأها كذلك وتتعمق روحها وتتأمل أغراضها وتتذوق فنها، ثم ترى: أكان المتنبي يحن حنينه ذاك إلى سيف الدولة، ويعتب عليه عتبه ذاك الناضح دما وحبا وأسى، لمجرد أن سيف الدولة كان يحسن تقديره وبره، أم لأن سيف الدولة قد أروى وأشبع في المتنبي عروبته وثوريته وشاعريته؟...
المرحلة المأساة في حياة المتنبي:
المرحلة التي انفصل فيها أبو الطيب عن صديقه المفضل، الأمير الحمداني سيف الدولة، واتصل فيها بأمير مصر كافور الإخشيدي عام 345 ه‍، هي المرحلة المأساة في حياته.
لقد فجع المتنبي، يومئذ، بأعز علاقاته الإنسانية، وأسمى تجربات حياته، وأنبل قرابة وجدانية بينه وبين الناس، فضلا عن فجيعته حينذاك بتلك الطمأنينة الروحية والمادية التي لم يتذوق مثلها في مراحل عمره جمعاء...
وفي الحقيقة أن انفصاله عن سيف الدولة لم يكن يعني انتهاء مرحلة وابتداء مرحلة، بل كان يعني في نفس الشاعر تحول معنى المرحلة نفسها من الطمأنينة إلى القلق العارم، ومن الغبطة والسعادة إلى الكدر والألم والتمزق النفسي...
ومعنى ذلك أن المرحلة الأخيرة لم تكن مرحلة مستقلة عن سابقتها. بل هي امتداد لها، ولكن بوجه جديد عابس قاتم مثخن بالجراح...
فالمتنبي لم ينفصل عن سيف الدولة روحيا ووجدانيا حين غادر بلاطه وغادر صحبته في دولته ومعارك جهاده، وإن انفصل عنه ماديا وجسديا...
لقد ظل مرتبطا بمرحلته السابقة وبأميره المفضل، ولكن ارتباط ألم وعتب وحنين وتفجع... فقد راح إلى دمشق، ثم إلى الرملة، وهو ينظر بقلبه ووجدانه وقضيته الكبرى إلى الوراء... إلى حلب... إلى رحاب سيف الدولة... إلى معارك الحدود والثغور... إلى هزج الفرسان وصليل السيوف وهدير القتال وعظائم الانتصارات وتدارك الهزائم... بينما ينظر بعينه وبحاجته ومطامحه المحرجة، إلى أمام... ولكن أين؟...
لقد كان في نفسه، وهو يغيب عن وجه الأمير الحمداني الذي خذله واستمع إلى أقاويل حساده وخصومه... لقد كان في نفسه حينذاك أمران اثنان:
الأول: أن يجد المكان الذي يسع مطمعه كطالب ضيعة أو ولاية يستريح إليها بعد كفاح طويل، وتغنيه عن بيع شعره في سوق الكساد من جديد...
الثاني: أن يجد وجوده كشاعر يملأ الدنيا ويشغل الناس، بعد أن رأى وجوده هذا قد فقد مكانه المطمئن المفضل الذي وجده في ظل الأمير الحمداني، وهو يطوي في ضميره رغبة جارفة في أن يغيظ سيف الدولة، ويثير غيرته وحميته وندمه إذا وجد المكان الجديد الذي يرجو في ظل أمير جديد ينافس سيف الدولة...
وكان كافور الإخشيدي، حاكم مصر يومئذ وخصم أمير حلب، هو الأمير الذي تطلع إليه المتنبي، أول ما تطلع، حين أرغمه كيد الكائدين على أن يولي ظهره لسيف الدولة...
كان يتطلع إلى مصر وكافورها، وهو يرجو أن يحقق بذلك كلا الأمرين معا: مكان مطمعه، ومكان شاعريته، ليستريح، وليغيظ أميره الذي فارقه مرغما وظل متصلا به روحا ووجدانا.
وفي الوقت نفسه كان الإخشيدي كافور هو أيضا يرقب هذه الفرصة ليضع يده على الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لكي يملأ به دنياه ويشغل به أعداءه... وكان سيف الدولة هو الشبح الذي يتجسد فيه كل عداوات كافور، وكان القبض على يد المتنبي يعني، في نفس كافور، القبض على سنان الرمح الذي يطعن به كبرياء سيف الدولة، ويثير حنقه، ويهيج أعمق مشاعر المنافسة في سويداء قلبه...
هكذا تلاقت الرغبتان: رغبة المتنبي، ورغبة كافور، وإن اختلفت أسبابهما وأهدافهما...
وفي حين كان المتنبي ينتظر الفرصة لبلوغ مأربه، وهو عند أمير الرملة بفلسطين جاءته الدعوة من كافور إلى مصر... فخف إليه مستجيبا لدعوته،

(1) انتجع: طلب العشب.
(2) المشرقية: السيوف.
(3) القذع: الفحش.
(٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370