وفي قلبه هزة فرح وأمل تقابلها رعدة حنق وعتب وحنين تتجه به إلى حلب، إلى سيف الدولة...
ويتلاقى الشاعر وحاكم مصر، وتتلاقى رغبتاهما، ولكن كافور رجل عصامي ماكر حاذق، فلم يعط الشاعر كل ما في نفسه من مشاعر النصر...
وكان النصر يعني عند كافور نصرا على المتنبي ونصرا على سيف الدولة معا...
لقد كبح الأمير الماكر الحاذق عواطفه، فما قابل الشاعر بما ينبغي أن يقابله به من فرح بلقائه بعد انتظار طويل صابر، بل واجهه ببرودة ماكرة، بالرغم مما هيأ له من أسباب الراحة والسكن، ليستدر مدائحه، مستعجلا إياه بهذه المدائح...
وما خفي على فطنة الشاعر هذا المظهر البارد الماكر من كافور، فاغتم لذلك وأحس لوعة الجرح من جديد، وأحس الطعنة في كبريائه تمزق وجدانه... ولكنه أضمرها في طيات نفسه إلى حين، وشاء أن يقابل المكر بمكر مثله بعض الوقت... فتأخر عن كافور بالمديح، حتى ينتزع منه المكان الذي جاء مصر من أجله...
ولم يطل الوقت... فإذا الشاعر يفتتح مدائحه لكافور بأولى قصائده فيه جمادى الثانية سنة 346 ه 957 م، وهي القصيدة التي مطلعها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا * وحسب المنايا أن يكن أمانيا وننظر في هذه القصيدة لا لنرى كيف حال أبي الطيب وهو يقول أول قصيدة بعد انقطاعه عن سيف الدولة يمدح بها غيره أول مرة... فنرى تلك الحال نفسها التي وصفناها، أي أنه ما يزال يتلفت بقلبه إلى صديقه الذي فجع بصداقته، ولا يزال يرتبط به ارتباط روح ووجدان، رغم القطيعة، ورغم الجرح، ورغم الفجيعة...
فقد وقف نحو اثني عشر بيتا من أبيات هذه القصيدة على التغني بتلك العلاقة المقطوعة الموصولة معا معبرا عن غيظه، ولكن أي غيظ؟... إنه غيظ المحب الذي فارق من أحبه مرغما جريحا، دون أن تنقطع في نفسه وشائج الحب...
لقد انتظر كافور طويلا، وهو يتحرق، حتى يرى شاعر سيف الدولة يقف بين يديه منشدا فيه المدائح، فلما وقف فعلا، وتحقق حلم كافور، فوجئ بأولى قصائده تتحدث في مطلعها حديث شاعر يرى الموت خير دواء يشفيه من دائه، ويرى المنية أحلى أمانيه.
فهل انتظر كافور كل ذلك الانتظار ليسمع مثل هذه اللهجة من شاعره عند أول موقف بين يديه منشدا؟...
ولا يكتفي الشاعر بهذا الاستهلال يجبه به ممدوحه الجديد، بل يزيد في تحديه للموقف، حين يعلن استكباره عن تحمل عيش الذل وإيثاره الدفاع عن عزته وكرامته بحد السيف وسنان الرمح واختيار كرائم الخيل، كشان الأسود لا يغنيها الحياء في دفع غائلة الجوع، ولا تهاب إلا حين تكون ضارية...
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة * فلا تستعدن الحسام اليمانيا ولا تستطيلن الرماح لغارة * ولا تستجيدن العتاق المذاكيا فما ينفع الأسد الحياء من الطوى * ولا تتقى حتى تكون ضواريا ماذا يعني المتنبي بهذه اللهجة يفتتح بها عهده مع كافور؟...
لقد أراد أن يحذره منذ البدء... أراد أن يقول له: إياك أن تسومني المذلة، فلقد فارقت سيف الدولة مذ رأيته يريدني أن أرضى عيش الذل، ولن أرضى أبدا هذا العيش، فكن على حذر...
ثم أراد أن يوحي لكافور أنه لم يفارق سيف الدولة كارها له، بل لا يزال يضمر له الحب... وإن كان يعبر عن هذا الحب بصورة عتاب وتحذير لقلبه:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى * وقد كان غدارا، فكن أنت وافيا واعلم أن البين يشكيك بعده * فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا فان دموع العين غدر بربها * إذا كن أثر الغادرين جواريا فهل نرى إلى قوله: واعلم أن البين يشكيك بعده. أليس هذا أصرح تعبير عما يهيج في قلبه من مشاعر الحنين إلى سيف الدولة؟... بل، هل أبلغ صراحة في ذلك من قوله:
أقل اشتياقا أيها القلب ربما * رأيتك تصفي الود من ليس صافيا خلقت ألوفا، لو رجعت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجع القلب باكيا إنه يريد أن يقول لكافور: أنا لست لك... إن قلبي لا يزال يصفي غيرك وده، وإن لم يكن ذلك الغير صافيا...
ولنتأمل في قوله خلقت ألوفا... فهو يريد أن يوحي لكافور أن المسألة بيني وبين سيف الدولة مسالة ألفة، والألفة خليقة أصيلة بي... ولذا أراني موجع القلب باكيا لفراقه.
هكذا تبين، منذ القصيدة الأولى، بل منذ اللقاء الأول، أن كافور والمتنبي لن يكون أحدهما للآخر مثلما كان الحال بين سيف الدولة والمتنبي.
ولعل كلا من المتنبي وكافور قد أضمر لصاحبه، منذ ذلك الوقت، أن يكون منه على حذر، وأن يستفيد من صحبته قدر ما يستطيع دون أن يعطيه كل ما يستطيع. فالمتنبي قد عقد النية على أن يرتضي المصير الذي انتهى به إلى صحبة كافور رغم إرادته، ولكن شرط أن ينال منه مطلبا ماديا يغنيه عن التشرد في الآفاق، ويسكن إليه من متاعب التطواف ومتاعب التقلب بين ذوي الجاه والسلطان...
لقد أصبح المتنبي، إذن، عالق النظر والرجاء في أمر واحد سيصبر من أجله على المكاره كلها عند كافور... وهذا الأمر هو الحصول على المال، فلقد صار إلى حال لا يرى معها المجد كله شيئا إذا لم يدعمه المال، أو لم يكن هو المال...
وذلك ما قد كان يعلنه بأشكال مختلفة في مدائحه بكافور، ففي القصيدة التي مطلعها:
أود من الأيام ما لا توده * وأشكو إليها بيننا وهي جنده في هذه القصيدة قال:
فلا ينحلل في المجد مالك كله * فينحل مجد كان بالمال عقده ودبره تدبير الذي المجد كفه * إذا حارب الأعداء، والمال زنده فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله * ولا مال في الدنيا لمن قل مجده