من اللحظات الهاربة من الإطار الذي وضعه فيه التاريخ.
وإذا رافقنا المتنبي إلى شعب بوان وجدنا لحظة أخرى من حياة الشاعر، يرتفع بها عن المقاييس المألوفة.
وهذا الشعب بقعة من البقاع الفاتنة التي مر بها المتنبي في طريق فارس، وهو آية من آيات الجمال الطبيعي، فلما وقف عليه أخذ أخذة المسحور، وذاب في روعة الجمال، ولا يكاد يفيق من غيبوبته حتى تسيل روحه في أبيات تدل على قوة الجمال، وقوة تأثيره:
يقول بشعب بوان حصاني: * أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان فان أداة الاستفهام هنا تنطوي على أدق معاني الإنكار، ويصب فيها الشاعر أعمق ما في روحه من الحسرات على مأساة الإنسان، ويستغرب حتى حصانه العاري من الفكر، ومن الشعور بالجمال مغادرة هذه الجنة الفاتنة!.
وإلى أين!. إلى الطعن الذي تسيل فيه الدماء، وتتمزق تحته الأشلاء، وتذهب فيه الأرواح إلى واد عميق عميق!.
إن الشاعر يرتفع في هذه اللحظة عن جميع المقاييس المألوفة في عصره، ولا ينسى تمجيده للحرب، وتروية رمحه بالدماء فحسب، وإنما ينكر ما كان يمجده، ولا يكاد يذكر قوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم فما السر في هذا التباعد العظيم في المواقف؟ إن البعض يراه من إزدواج الشخصية والبعض الآخر يرى التناقض شيئا اعتياديا في حياة الأدباء.
يقول ليتون ستراتشي عن فولتير: كان أعظم أناني بين الناس، وكان أبعد الناس عن الأغراض الذاتية، كان طماعا بخيلا، وكان كريما بافراط، كان طائشا خبيثا غدارا، ومع ذلك كان صديقا، متينا، ومنعما صادقا ووقورا بعمق، وملهما بحماس نبيل (1).
فهل ينطبق على المتنبي ما ينطبق على فولتير؟ وهل يكون الأديب مجمع متناقضات؟ إذا أخذنا برأي أرسطو في التناقض، واعتبرنا وحدة الزمان والمكان والشخصية وغيرها من الشروط وجدنا الأديب كغيره واقعا تحت المؤثرات المختلفة، وهذه المؤثرات هي التي تملي عليه خواطره في الحياة إذا لم يكن وراءها خط فلسفي متين يراقبها، ويراقب تذبذبها بين الأنانية وإنكار الذات. والمتنبي من هؤلاء الناس الذين تؤثر بهم الظروف التأثير الذي رأيناه، فحينا يرتفع إلى القمة في إنسانيته، ويتمرد على مقاييس العصر، وحينا يصبح ريشة في التيار المندفع في وادي الزمان... زمانه الخاص.
حصان المتنبي...
وقال محمد شرارة:
يقول بشعب بوان حصاني * أعن هذا يسار إلى الطعان؟!
أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان!
هذان البيتان من قصيدة طويلة نظمها الشاعر بعد مروره ب شعب بوان، وهو مرج تتعالى فيه الأشجار، وتغني البلابل، وتنتشر الأعشاب، ويختلط فيه تغريد البلبل بزقزقة العصفور، وأحاديث الناس بحفيف الأوراق، وتتصاعد فيه لغات لو سمعها النبي * سليمان لاحتاج إلى مترجم:
ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان وقد وصف الشاعر هذا الشعب وصفا دقيقا، وصوره تصويرا فنيا يكاد يرى القارئ من خلاله الظلال والأفياء، والأشجار، والمروج، وما تنطوي عليه من روعة وفتنة، ويرى الطبيعة وقد لبست ثوبها الساحر الأخضر فتنة تسبي العيون، وتنعش القلوب.
في هذين البيتين إحساس وتصوير، أما التصوير وما فيه من إبداع ودقة وصدق فلا يهمنا كثيرا في هذه الكلمة، وإنما الذي يهمنا، ويهم أغلبية القراء على ما أظن هو الاحساس، إحساس الشاعر، بالجمال، والأثر الذي انبثق من هذا الاحساس.
وإحساس الشاعر في هذه اللحظة الفاتنة كما يراه القارئ هو إحساس إنساني عميق تتفتح به الحياة كما تتفتح الزهرة على هبوب النسيم، وأطياف الأشعة، وترى الوجود وما فيه من جمال أخاذ، جنة لا تختلف عن الجنة التي خرج منها آدم جنة حلوة فاتنة تغري الأحياء بالحياة، وتجذبهم إليها، وتحبب إليهم العيش في ظلالها وأفيائها الناعمة اللذيذة. ولا يقتصر إحساس الشاعر في هذه اللحظة على نفسه، وإنما يطغى عليه فيفيض ويفيض كما تفيض الكاس عند امتلائها. وإذا الشاعر يخلع هذا الاحساس الرائع على ما حوله على حصانه. وإذا الحصان يرى الحياة وقد ارتدت هذا الثوب المغري الفاتن شيئا لذيذا تستحق العناية، وتستحق الحرص... ولا يقف الحصان عند هذا الحد بل ينتقل إلى التفكير بما يهدد هذه الحياة، وبمن يهددها، وإذا بتفكيره وهو في قمة الاحساس يوصله إلى مصدر هذا التهديد الضاري:
إنه الحرب - الحرب التي تأخذ الناس والخيل، وتختطفهم من هذه الجنة الحلوة السائغة إلى الطعن والضرب والقتل، وعندئذ يصرخ الحصان صرخة الجريح، ويستفهم استفهاما إنكاريا موجعا: أعن هذا يسار إلى الطعان؟!. ولا يلبث أن ينتقل بعد ذلك الاستفهام الموجع وقد أخذه الغضب إلى آدم الذي علم أولاده مفارقة الجنة!.
في هذه النهاية يلقي حصان الشاعر تبعة الحروب وإثارتها على الإنسان الأول الذي لم تكفه معصيته الأولى التي سببت طرده من الجنة حتى أتبعها بغيرها من المعاصي وأكبر معاصيه بعد الخروج من الجنة هي الحروب والشاعر يجعل الحيوان في هذا الاستنتاج أرقى إحساسا وأصح تفكيرا من الإنسان!.
لم يحالف التوفيق شاعرنا في هذه النتيجة التي انتهى إليها. إنه على عظمته ضحية في هذه الفكرة المغلوطة للأساس الفلسفي الذي يرى بان الحرب ظاهرة طبيعية من ظواهر الحياة الإنسانية. شانها في ذلك شان العواصف والأوبئة في الطبيعة. وإذا كانت الحرب ظاهرة إنسانية لازمة كان الإنسان أحط إحساسا، وأدنى تفكيرا من الحيوان من حصان الشاعر مثلا.!.
لم يكن شاعرنا العظيم وحده ضحية هذا الاحساس الفلسفي المتداعي، بل تعداه إلى كثير من الشعراء وكما سمعت منه: أبوكم آدم سن المعاصي فقد سمعت من غيره: