فلم هذه الحرب؟... أهي لمجرد أن يخرج من الفقر إلى الغنى، ومن الشقوة إلى السعادة؟... أتراه قام في ذهن الفتى يومئذ أنه لا يستطيع أن يغتني ويسعد إلا بحرب كهذه؟.
نستبعد أن يكون الفتى قد أراد الحرب هذه لنفسه هو بمفرده، بل توحي إلينا هذه الأسباب، بما فيها من حرارة اللهجة وحماسة العزم، أنه عاد من البادية إلى الكوفة وهو يحمل فكرة الثورة على الأوضاع العامة، لا على حاله هو بشخصه.
وطبيعي أننا لا نقصد بهذا أن نتجاهل العامل الشخصي عند الفتى البائس الفقير المحروم، الطموح، ولكن نقصد أن الفتى قد أتيح له خلال تجرباته تلك، في مناخ اجتماعي ثوري، أن يكتشف ولو بشكل بدائي علاقة ما بين بؤسه وفقره وحرمانه. شخصيا، وبين ما يصيب غيره في مجتمعه العربي من ظلامات وتعاسات، فإذا هو يرى أن أمره الشخصي من أمر قومه، وأن بؤس حاله من بؤس أعم وأشمل، مصدره هذا الاضطراب العام السائد، أوضاع الدولة العربية كلها، وإذا هو يرى بعد، أنه متصل أوثق اتصال بهذه الأوضاع، وأنه لذلك على ارتباط بقضية قومه، وأنه إذا كان يطمح إلى تغيير حاله فلا بد أن يرتبط طموحه هذا بطموح هذه الفئات الكثيرة المظلومة المحرومة في مجتمعة.
قد يكون في هذا التفسير شئ كثير أو قليل من المبالغة، وتحميل للفتى ولعصره أكثر مما كان يمكن أن يحتملا من فهم القضية على هذا الوجه...
ولكن، هل تراني أقصد أن القضية كانت واضحة محددة في ذهن المتنبي على هذا النحو الذي يلائم عصرنا وتفكيرنا العلمي أكثر مما يلائم عصر المتنبي وتفكيره؟... طبعا، لا. وإنما الأمر الذي لا شك فيه، على ما يبدو لي، أن المتنبي كان في ذلك الحين على شعور بأنه يحمل قضية ما هي أكبر من قضيته الخاصة، وأن هذه القضية ذات صلة بنظام الحكم أو بالأشخاص الذين يديرون أمر الدولة في وطنه وقومه.
ولقد خرج المتنبي من الكوفة إلى بغداد أول مرة، وهو في الخامسة عشرة، بعد أن انحسرت عن العراق موجة القرامطة، ولم تطل إقامته في بغداد، ولم يترك في عاصمة الخلافة أثرا ولا ذكرا، وليس في النصوص والأخبار ما يكفي للكشف عن سبب هذا، وإن كان يمكن أن نربط ذلك بهذه النزعة الثورية التي ظهرت عليه وهو في الكوفة، وأن تكون هذه النزعة قد باعدت بينه وبين سراة بغداد وذوي السلطان والثراء فيها، فأعجل رحيله عنها إلى بلاد الشام، ولعله كان في نحو السابعة عشرة من عمره حينذاك.
ومن المحقق أن نزعته الثورية هذه قد صاحبته إلى بلاد الشام أيضا، وطوفت معه في أنحاء الجزيرة بشمال سورية، وفي رحلاته إلى طرابلس واللاذقية وفي حمص حيث قيل في الأخبار أنه سجن لدعوته قوما من البادية إلى أمر أنكره عليه أمير حمص لؤلؤ الإخشيدي فسجنه... ولكن ما هو هذا الأمر؟... أحقا أنه ادعاؤه النبوة؟...
ليست النصوص، والأخبار التي بأيدينا بمفصحة عن حقيقة هذا الأمر، وليس ادعاؤه النبوة مما تصدقه هذه النصوص والأخبار، وما تزال مسالة ادعائه النبوة مما يعد في باب الخرافة... فما ذا أحدث المتنبي إذن من أمر استوجب اضطهاده وسجنه في حمص؟...
أليس يمكن أن نستعين هنا بما ذكرناه آنفا من أن المتنبي قد استشعر، منذ أوائل نشأته وشبابه، بتلك الصلة العميقة الغامضة بين قضيته الخاصة، قضية بؤسه وفقره وحرمانه، وبين قضية مجتمعه وقومه، أعني أنه استشعر بترابط القضيتين معا، واتصالهما بالأوضاع السياسية والاجتماعية العامة، التي يفرضها نظام دخله الفساد، أو حكام فاسدون مفسدون، وأنه لذلك حمل فكرة الثورة على هذه الأوضاع، وظلت هذه الفكرة تحيا في نفسه وتنمو، ثم تتحين كل فرصة تتمكن فيها من التعبير عن ذاتها بأشكال مختلفة من التعبير، وأنه ربما وجد في بادية حمص فرصة من هذه الفرص التي كان يترصدها طوال ذلك العهد من حياته، فحاول نوعا من الثورة بأوضاع الحكم هناك، ولا سيما أن السلطة في ذلك الصقع كانت حينذاك لغير العرب، إذ كانت لدولة الأخشيديين، وهم من الأجانب يحكمون قوما من العرب في أرض عربية.؟؟...
فالمتنبي فتى عربي، وفي قرارة ذاته ثورة، وهو منذ وجدت هذه الثورة مكانها في ذاته يبحث عن ناس من العرب يعينونه على أحداثها، لعل بها خيرا لنفسه ولقومه كما أشرت من قبل، ولعل بها، في حمص ذاتها، ما يرغم هذه الدولة الأجنبية على الجلاء عن هذه الأرض العربية، ليكون الحكم فيها إلى عربي صالح يقيم ميزان العدل في قومه.
ولقد كانت الأيام تنتظر هذا الشاعر الثائر حتى يقيض له أن يعبر عن ثورته، عن نزعته العربية المكبوتة الحائرة في أعماق سريرته، تعبيرا يشبه الانفجار من وجه، ويشبه من وجه آخر روعة النضج في إبانه وفي أزهى عنفوانه.
ولقد طاولته الأيام كثيرا، وما طلته كثيرا، وامتحنته بألوان من المحن مقيتة ثقيلة سمجة... لقد وقف المتنبي عند التنوخيين في اللاذقية يهز عروبتهم عسى أن يرجع بهم للعرب سلطانهم، وينتزعوا من أيدي الأجانب ملكهم وأرضهم:
أحق عاف بدمعك الهمم * أحدث شئ عهدا بها القدم (1) وإنما الناس بالملوك وما * تفلح عرب ملوكها عجم لا أدب عندها ولا حسب * ولا عهود لهم ولا ذمم بكل أرض وطئتها أمم * ترعى بعبد كأنها غنم...
ووقف المتنبي عند بدر بن عمار في طبرية، وقد ملك عليه الفرح بلقائه كل نواحيه، فان بدر بن عمار مجاهد عربي، والمتنبي يبحث في الملوك والأمراء والقواد عن عربي يستحق مدائحه، وها قد وجده فقصده من شمال سورية إلى جنوبها، وها هو ذا يلقاه فيهتف من فرح:
أحلما نرى أم زمانا جديدا * أم الخلق في شخص حي أعيدا تجلى لنا فأضأنا به * كانا نجوم لقينا سعودا ووقف المتنبي، في ما بين هذا وهؤلاء، عند ناس كثيرين ينشدهم شعره متكلفا ما ليس عنده لهم من حب ولا إعجاب، متحفظا في إظهار سريرته وثورته، متنفسا حينا ببعض ما يكتم من هم ثقيل وسر خطير: