مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٢٢
فلم هذه الحرب؟... أهي لمجرد أن يخرج من الفقر إلى الغنى، ومن الشقوة إلى السعادة؟... أتراه قام في ذهن الفتى يومئذ أنه لا يستطيع أن يغتني ويسعد إلا بحرب كهذه؟.
نستبعد أن يكون الفتى قد أراد الحرب هذه لنفسه هو بمفرده، بل توحي إلينا هذه الأسباب، بما فيها من حرارة اللهجة وحماسة العزم، أنه عاد من البادية إلى الكوفة وهو يحمل فكرة الثورة على الأوضاع العامة، لا على حاله هو بشخصه.
وطبيعي أننا لا نقصد بهذا أن نتجاهل العامل الشخصي عند الفتى البائس الفقير المحروم، الطموح، ولكن نقصد أن الفتى قد أتيح له خلال تجرباته تلك، في مناخ اجتماعي ثوري، أن يكتشف ولو بشكل بدائي علاقة ما بين بؤسه وفقره وحرمانه. شخصيا، وبين ما يصيب غيره في مجتمعه العربي من ظلامات وتعاسات، فإذا هو يرى أن أمره الشخصي من أمر قومه، وأن بؤس حاله من بؤس أعم وأشمل، مصدره هذا الاضطراب العام السائد، أوضاع الدولة العربية كلها، وإذا هو يرى بعد، أنه متصل أوثق اتصال بهذه الأوضاع، وأنه لذلك على ارتباط بقضية قومه، وأنه إذا كان يطمح إلى تغيير حاله فلا بد أن يرتبط طموحه هذا بطموح هذه الفئات الكثيرة المظلومة المحرومة في مجتمعة.
قد يكون في هذا التفسير شئ كثير أو قليل من المبالغة، وتحميل للفتى ولعصره أكثر مما كان يمكن أن يحتملا من فهم القضية على هذا الوجه...
ولكن، هل تراني أقصد أن القضية كانت واضحة محددة في ذهن المتنبي على هذا النحو الذي يلائم عصرنا وتفكيرنا العلمي أكثر مما يلائم عصر المتنبي وتفكيره؟... طبعا، لا. وإنما الأمر الذي لا شك فيه، على ما يبدو لي، أن المتنبي كان في ذلك الحين على شعور بأنه يحمل قضية ما هي أكبر من قضيته الخاصة، وأن هذه القضية ذات صلة بنظام الحكم أو بالأشخاص الذين يديرون أمر الدولة في وطنه وقومه.
ولقد خرج المتنبي من الكوفة إلى بغداد أول مرة، وهو في الخامسة عشرة، بعد أن انحسرت عن العراق موجة القرامطة، ولم تطل إقامته في بغداد، ولم يترك في عاصمة الخلافة أثرا ولا ذكرا، وليس في النصوص والأخبار ما يكفي للكشف عن سبب هذا، وإن كان يمكن أن نربط ذلك بهذه النزعة الثورية التي ظهرت عليه وهو في الكوفة، وأن تكون هذه النزعة قد باعدت بينه وبين سراة بغداد وذوي السلطان والثراء فيها، فأعجل رحيله عنها إلى بلاد الشام، ولعله كان في نحو السابعة عشرة من عمره حينذاك.
ومن المحقق أن نزعته الثورية هذه قد صاحبته إلى بلاد الشام أيضا، وطوفت معه في أنحاء الجزيرة بشمال سورية، وفي رحلاته إلى طرابلس واللاذقية وفي حمص حيث قيل في الأخبار أنه سجن لدعوته قوما من البادية إلى أمر أنكره عليه أمير حمص لؤلؤ الإخشيدي فسجنه... ولكن ما هو هذا الأمر؟... أحقا أنه ادعاؤه النبوة؟...
ليست النصوص، والأخبار التي بأيدينا بمفصحة عن حقيقة هذا الأمر، وليس ادعاؤه النبوة مما تصدقه هذه النصوص والأخبار، وما تزال مسالة ادعائه النبوة مما يعد في باب الخرافة... فما ذا أحدث المتنبي إذن من أمر استوجب اضطهاده وسجنه في حمص؟...
أليس يمكن أن نستعين هنا بما ذكرناه آنفا من أن المتنبي قد استشعر، منذ أوائل نشأته وشبابه، بتلك الصلة العميقة الغامضة بين قضيته الخاصة، قضية بؤسه وفقره وحرمانه، وبين قضية مجتمعه وقومه، أعني أنه استشعر بترابط القضيتين معا، واتصالهما بالأوضاع السياسية والاجتماعية العامة، التي يفرضها نظام دخله الفساد، أو حكام فاسدون مفسدون، وأنه لذلك حمل فكرة الثورة على هذه الأوضاع، وظلت هذه الفكرة تحيا في نفسه وتنمو، ثم تتحين كل فرصة تتمكن فيها من التعبير عن ذاتها بأشكال مختلفة من التعبير، وأنه ربما وجد في بادية حمص فرصة من هذه الفرص التي كان يترصدها طوال ذلك العهد من حياته، فحاول نوعا من الثورة بأوضاع الحكم هناك، ولا سيما أن السلطة في ذلك الصقع كانت حينذاك لغير العرب، إذ كانت لدولة الأخشيديين، وهم من الأجانب يحكمون قوما من العرب في أرض عربية.؟؟...
فالمتنبي فتى عربي، وفي قرارة ذاته ثورة، وهو منذ وجدت هذه الثورة مكانها في ذاته يبحث عن ناس من العرب يعينونه على أحداثها، لعل بها خيرا لنفسه ولقومه كما أشرت من قبل، ولعل بها، في حمص ذاتها، ما يرغم هذه الدولة الأجنبية على الجلاء عن هذه الأرض العربية، ليكون الحكم فيها إلى عربي صالح يقيم ميزان العدل في قومه.
ولقد كانت الأيام تنتظر هذا الشاعر الثائر حتى يقيض له أن يعبر عن ثورته، عن نزعته العربية المكبوتة الحائرة في أعماق سريرته، تعبيرا يشبه الانفجار من وجه، ويشبه من وجه آخر روعة النضج في إبانه وفي أزهى عنفوانه.
ولقد طاولته الأيام كثيرا، وما طلته كثيرا، وامتحنته بألوان من المحن مقيتة ثقيلة سمجة... لقد وقف المتنبي عند التنوخيين في اللاذقية يهز عروبتهم عسى أن يرجع بهم للعرب سلطانهم، وينتزعوا من أيدي الأجانب ملكهم وأرضهم:
أحق عاف بدمعك الهمم * أحدث شئ عهدا بها القدم (1) وإنما الناس بالملوك وما * تفلح عرب ملوكها عجم لا أدب عندها ولا حسب * ولا عهود لهم ولا ذمم بكل أرض وطئتها أمم * ترعى بعبد كأنها غنم...
ووقف المتنبي عند بدر بن عمار في طبرية، وقد ملك عليه الفرح بلقائه كل نواحيه، فان بدر بن عمار مجاهد عربي، والمتنبي يبحث في الملوك والأمراء والقواد عن عربي يستحق مدائحه، وها قد وجده فقصده من شمال سورية إلى جنوبها، وها هو ذا يلقاه فيهتف من فرح:
أحلما نرى أم زمانا جديدا * أم الخلق في شخص حي أعيدا تجلى لنا فأضأنا به * كانا نجوم لقينا سعودا ووقف المتنبي، في ما بين هذا وهؤلاء، عند ناس كثيرين ينشدهم شعره متكلفا ما ليس عنده لهم من حب ولا إعجاب، متحفظا في إظهار سريرته وثورته، متنفسا حينا ببعض ما يكتم من هم ثقيل وسر خطير:

(1) من قصيدة قالها في علي بن إبراهيم التنوخي حوالي سنة 323 هجرية، وكان المتنبي في نحو العشرين من عمره
(٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370