متى نزل السماك فحل مهدا * تغذيه بدرتها الثدي (1) أهل بصوته، فأهل شكرا * به الأقوام، وافتخر الندي (2) بيوم قدومه وجبت علينا النذور، * وسيق للبيت الهدي (3) وسر المجد مولود كريم * أبان وفوده خبر جلي علو زائد بأبي علي * أتاك بفضله الله العلي ويهنئ ثانية صديقا له بمولوده، وقد كتب له الصديق بنبأ ولادته، فإذا النبأ عنده أي أبي العلاء بشرى، وإذا الوليد نفسه هو النعمى.
ونحس هنا حرارة الصدق في تهنئته، وتكاد نبضات قلبه تنتقل إلى صدورنا ونحن نقرأ هذه اللهفة إلى صديقه. وفي ظننا أن هذه التهنئة الشعرية كانت في أوائل عهده بالعزلة، وكانت ما تزال في نفسه صبوات إلى تلك المتع الروحية بلقاء الأصدقاء والشعراء، وما يزال يضطرب وجدانه وينفعل بتجربات حية باقية من زمانه الأول:
كتابك جاء بالنعمى بشيرا * ويعرض فيه عن خبري سؤال وحالي خير حال كنت يوما * عليها، وهي صبر واعتزال فاما أنت، والآمال شتى، * فلقياك السعادة لو تنال!
بعدنا، غير أنا أن سعدنا * بغبطة ساعة، عكف الخيال ولو صنعاء كنت بها لهزت * هواي إليك نوق أو جمال أرى راح المسرة أثملتني * وتلك، لعمري، الراح الحلال وقبل اليوم ودعني مراحي * وأنستنيه أيام طوال هنيئا، والهناء لنا جميعا * يقينا لا يظن، ولا يخال أهل فبشر الأهلين منه * محيا في أسرته الجمال بأخوته الذين هم أسود * على آثار مقدمه عجال فان تواتر الفتيان عز * يشيد حين تكتهل الرجال وهل يثق الفتى بنماء وفر * إذا لم تتل أينقه فصال (4) ستركز حول قبتك العوالي * وتكثر في كنانتك النبال فان مناي أن يثري حصاكم * ويقصر عن زهائكم الرمال (5) يستوقفنا من هذه القصيدة العاطفية، أولا: إحساسها الصادق وصفاؤها النفسي والتعبيري معا، وثانيا: نظرة أبي العلاء إلى التناسل هذه النظرة الطبيعية السليمة، فإذا الوليد الجديد بشارة بمواليد كثيرة تتبعه، وإذا تكاثر الأبناء عز للأباء يشيدونه لهم في أعمال الكهولة، وإذا هم المال الطيب، ولا يثق المرء بنمو هذا المال إلا أن يتناسل ويتلو بعضه بعضا، وإذا أبو العلاء يتمنى، أغلى ما يتمنى لصديقه، أن يتكاثر أبناؤه حتى يقصر عدد الرمال عن أعدادهم... يقول هذا وهو في عافية من نفسه ووجدانه، وفي رغبة صادقة أن ينال هذا الصديق ما هو خير ونعمى له، والنسل هنا هو خيره ونعماه... أين هذا كله من رأي أبي العلاء في الأبناء وفي التناسل وفي جناية الآباء على أبنائهم حين يهبونهم نقمة الحياة؟... أين هذا الذي ينطق به سقط الزند من ذاك الذي تضج به اللزوميات؟...
وينقم أبو العلاء على الناس، في اللزوميات، أنهم يفتخرون، ويرى افتخارهم، كالكذب، منشأه الجهل، فعلا م يفتخر الناس وهم تراب ومن التراب:
ادفع الشر، إذا جاء، بشر * وتواضع، إنما أنت بشر هذه الأجسام ترب هامدة * فمن الجهل افتخار وأشر فكيف شان أبي العلاء إذن في سقط الزند، أهو يرى الفخر هنا كما هو هناك عنده؟.
الفرق بين حاليه هنا وهناك، هو الفرق بين من يمارس الافتخار بنفسه فعلا إلى حد الغو والاغراب، ومن يفلسف الافتخار للناس، وينقمه عليهم، ويعجب منهم أن يجدوا في إنسانهم موضع فخر... أي أن الفرق بين أبي العلاء في سقط الزند وبينه في اللزوميات من هذا الوجه، هو أنه في الأول شاعر، وفي الثاني متفلسف، أو إذا شئت فيلسوف، أو فلنقل:
مفكر متمذهب، يجري في هذه المسألة على غير ما تقتضيه طبيعة الشاعر الإنسان.
ومن منا يجهل بيتيه السائرين في مطلع قصيدته المعروفة:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل * عفاف وإقدام وحزم ونائل أعندي، وقد مارست كل خفية، * يصدق واش، أو يخيب سائل!
في سقط الزند قصيدتان موضوعهما الفخر، ولكن قصائد غيرهما جاءت في الديوان في مواضيع أخرى، يطلع الفخر أثناء أبياتها، لمناسبة حينا، ولغير مناسبة حينا. وفخر أبي العلاء تبدو فيه من المتنبي نفحة ظاهرة، ولعل قصيدة ألا في سبيل المجد أدل على هذه النفحة المتنبية، سواء برويها الصاخب وبعروضها المجلجل، أم بكبرياء التحدي ممتلئة بها أوداج شاعر المعرة، تشبها بكبرياء صاحبنا أبي الطيب شاعر الفرسان، وفارس الشعراء...
وإني وإن كنت الأخير زمانه * لآت بما لم تستطعه الأوائل لقد قال المعري هذا الكلام وهو في عنفوان حيويته، وفي عز إقباله على الدنيا، وله في الحياة آمال كبار، وأمامه دنيا بغداد لما تزل يومئذ دنيا أحلامه، فكان طبيعيا أن يزهو هذا الزهو كله، وليس في ذاك عاب يعيبه، فقد كان شاعرا، وكان يستشعر في ذاته أمرا غير عادي، وكانت نفسه أشواق أبكار لما تمتحنها التجربة الكبرى المنتظرة، وكانت شهرة ذكائه وتفوقه في الحفظ والفطنة تكتسح بلاد الشام وتجاوزها إلى العراق ومصر، وتتضخم في طريقها إلى الناس حتى تبلغ حدود الأساطير، ولعلها كانت وهي تجوب الآفاق، ترجع إلى مسمعه بضجتها وضخامتها الأسطورية، فينتشي بها، ويزهى بنفسه،