مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٣٠
إن عمل الإرادة وحركة الجسم ليسا شيئين مختلفين تفرق بينهما تفرقة موضوعية، ويتحد أحدهما بالآخر برباط السببية. أي أن ما بينهما من صلة هي صلة العلة بمعلولها. بل هما شئ واحد ولو أنهما يحدثان بطرق مختلفة أتم الخلاف. إن عمل الجسم ليس إلا عمل الإرادة مجسدا. وهذا صحيح في كل حركة من حركات الحسم... فليس الجسم كله إلا إرادة تجسدت، فيجب لذلك أن تقابل أجزاء الجسم الرغبات الرئيسية التي تتجلى فيها الإرادة مقابلة تامة، ولا بد أن تكون تلك الأجزاء هي التعبير المرئي لهذه الرغبات.
فالأسنان والحلق والأمعاء هي الرغبة قد تجسدت، وأعضاء التناسل هي الجنسية. ويكون الجهاز العصبي في جملته أداة الحس التي تشعر بها الإرادة فتمدها لتتحسس بها في الداخل وفي الخارج. وكما أن الجنس الإنساني بصفة عامة يقابل الإرادة الإنسانية بصفة عامة فان البنية الجسدية للفرد تقابل إرادة الفرد... أي شخصيته....
وما دام الإنسان إرادة فلا بد أن ينتهي الأمر بقائل هذا القول إلى هذه النتيجة: لشد ما يغيظني أن نجادل رجلا بالبراهين، ونعاني الآلام، في إقناعه ثم يتضح لنا آخر الأمر أنه لا يريد أن يفهم، وأنه ينبغي لنا أن نتصل بإرادته.
من جهة أخرى إن أغبى إنسان ينقلب مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه تمس رغباته مسا قريبا. وقد يبدو على الناس أنهم مقودون من الإمام، والواقع أنهم مسوقون من الخلف.
فإذا ربطنا بين هذه الأفكار من حوض الألم إلى سد الرغبات إلى جعل الإرادة والحياة شيئا واحدا بدا لنا الدهليز المرعب، والغاية المريعة التي تقودنا إليها هذه الفلسفة. بينما تقودنا فكرة المتنبي على بساطتها، وبعدها عن التحليل الفيزيولوجي إلى واحة هادئة مريحة.
فالشاعر العربي، والفيلسوف الألماني يلتقيان في هوان الإرادة، ولكن شتان بين اللقائين. فالفيلسوف يرى الإرادة على هوانها كل شئ... إنها الشخصية... إنها الإنسان... والتنازل عنها تنازل عن الوجود، على أن هذا الوجود وجود شقي لا يستحق الجهاد ما دامت طيبات الحياة كلها عبثا وما دام العالم فاشلا في كل ما يقصد إليه. فاستخفاف الفيلسوف بالإرادة مستمد من استخفافه بالوجود كله، وما دام الوجود كله تافها والإرادة هي الوجود كانت الإرادة هينة! فإذا تخليت عنها في ضوء هذه النظرة فلست بخاسر شيئا إن لم تكن رابحا... والدعوة إلى تركها دعوة إلى البعد عن الخسائر. بينما الشاعر العربي لا يراها هذه الرؤيا... إنه يراها شيئا... وقد تكون شيئا مهما. ولكنه على أهميته ينبغي التخلي عنه إذا أدى إلى التصادم... إذا أدى إلى العداوة. فالتأدية إلى العداوة عند الشاعر هي التي تلقي الهوان على الإرادة فقط، لا وجود الإرادة نفسها، وبإضافة التأدية إلى العداوة يلتقي المتنبي مع شوبنهور في قوله:
ما دمنا مدفوعين لإرادة هذا الشئ أو ذاك فيستحيل أن نحيا في سعادة كاملة، أو في سلام دائم.
فنظرة الشاعر تنتهي كما رأينا إلى أن الإرادة شئ والدعوة إلى تركها والتخلي عنها تضحية... ولكنها تضحية في سبيل التخلص من العداوة... في سبيل سلام دائم بين الناس. ووراء هذه النظرة عنصر إنساني يمدها بالجمال والقوة. أما التخلي عنها بنظر الفيلسوف فليس بعيدا عن التضحية فقط! وإنما هو تخلص من شر... تخلص من مرض!... تخلص من آلام ومتاعب!
ووراء هذه النظرة يقف كل ما في الحياة من خوار ووعوعة... وما من شك بان القرن التاسع عشر، وما تم فيه من رأسمالية شرهة، واستعمار منهوم يمد نظرة الفيلسوف الألماني بكل ما فيها من سواد وظلمة.
إن عصر المتنبي وإن كان لا يقل قلقا عن عصر شوبنهور مع اختلاف الأسباب الداعية إلى القلق طبعا بيد أن نظرة الشاعر في هذا الموضوع بالذات ظلت أصفى من نظرة الفيلسوف، وأدق منها كثيرا. وقد ظل الجوهر الإنساني حيا في نفس الشاعر على رغم القلق المريع في عصره.
على أن الشاعر لا ينسى وهو في هذا الصفاء الإنساني أن الإنسانية لا نعني التسامح المطلق، أو التضحية من أحد الجانبين، أو تنازل أحد الطرفين فقط. الإنسانية لا تعني استغلال المؤمن بها لمنفعة الكافرين بالانسان، وبالقيم العليا، وإنما هي تسامح عام وتنازل مشترك بين الناس. وإذا حولها الكافرون بها إلى استغلال انقلبت عند المؤمنين بها إلى هوان ولم تعد إنسانية بل ذلا أو نوما على الذل. وإذا فهمت على أنها نوم أو تغاض كان على المؤمن بها أن يعرف كيف يواجه هذا الفهم القذر... عليه أن يستعد، ويقف للرد ولو لاقى في رده المنايا الكالحات:
غير أن الفتى يلاقي المنايا * كالحات ولا يلاقي الهوانا وكان الشاعر يريد أن يقول: نحن مستعدون للتنازل عن مراد النفوس، لأن مرادها أصغر من أن تكون العداوة ثمنا له. ولكن حذار أن يفهم هذا التنازل على أنه جبن أو هزيمة فنحن مستعدون في سبيل إعادتكم إلى الفهم الصحيح أن نلاقي المنية ولو كانت كالحة. ونحن مدركون أن الحياة مقبلة على الفناء، وأنها قصيرة مهما طالت. ومع ذلك فنحن مستعدون لاختصارها أكثر إذا كنتم تظنون أن تنازلنا عن مراد النفوس هزيمة وخوف منكم. ويكاد لشدة حرصه على هذا المعنى أن ينقلب عن فكرته الأساسية إلى مبشر بالنضال:
ولو أن الحياة تبقى لحي * لعددنا أضلنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تكون جبانا وهكذا يمضي الشاعر في طرح المسألة: فمراد النفوس صغير، بل وأصغر من أن ندفع العداوة ثمنا له، ولكن حذار أن يفهم ذلك على أنه هزيمة، فان المسألة عندئذ تتخذ شكلا آخر... شكلا فيه كثير من العنف والتحدي.
وطرح المسألة بهذا الشكل يضع النقاط على الحروف، ويديرها في إطارها الذي يجب أن تدور فيه: فالتسامح شئ جميل، ولكن على شرط أن يبتعد عن الجو الصوفي... أن يبتعد عن الحب المطلق وأن يبقى قريبا من الحكمة القائلة:
وقالت لنا قولا أجبنا بمثله * لكل كلام يا بنين جواب ولو كانت بثينة محبوبة إلى حد التقديس!.
والمتنبي بهذه اللحظة يعبر عن الفطرة الإنسانية الصافية، ويشير إلى الجوهر الإنساني المغطى بفلسفة المصالح، المقنع بالأضاليل. هذه اللحظة هي
(٣٠)
مفاتيح البحث: الموت (1)، المرض (1)، الحلق (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370