إن عمل الإرادة وحركة الجسم ليسا شيئين مختلفين تفرق بينهما تفرقة موضوعية، ويتحد أحدهما بالآخر برباط السببية. أي أن ما بينهما من صلة هي صلة العلة بمعلولها. بل هما شئ واحد ولو أنهما يحدثان بطرق مختلفة أتم الخلاف. إن عمل الجسم ليس إلا عمل الإرادة مجسدا. وهذا صحيح في كل حركة من حركات الحسم... فليس الجسم كله إلا إرادة تجسدت، فيجب لذلك أن تقابل أجزاء الجسم الرغبات الرئيسية التي تتجلى فيها الإرادة مقابلة تامة، ولا بد أن تكون تلك الأجزاء هي التعبير المرئي لهذه الرغبات.
فالأسنان والحلق والأمعاء هي الرغبة قد تجسدت، وأعضاء التناسل هي الجنسية. ويكون الجهاز العصبي في جملته أداة الحس التي تشعر بها الإرادة فتمدها لتتحسس بها في الداخل وفي الخارج. وكما أن الجنس الإنساني بصفة عامة يقابل الإرادة الإنسانية بصفة عامة فان البنية الجسدية للفرد تقابل إرادة الفرد... أي شخصيته....
وما دام الإنسان إرادة فلا بد أن ينتهي الأمر بقائل هذا القول إلى هذه النتيجة: لشد ما يغيظني أن نجادل رجلا بالبراهين، ونعاني الآلام، في إقناعه ثم يتضح لنا آخر الأمر أنه لا يريد أن يفهم، وأنه ينبغي لنا أن نتصل بإرادته.
من جهة أخرى إن أغبى إنسان ينقلب مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه تمس رغباته مسا قريبا. وقد يبدو على الناس أنهم مقودون من الإمام، والواقع أنهم مسوقون من الخلف.
فإذا ربطنا بين هذه الأفكار من حوض الألم إلى سد الرغبات إلى جعل الإرادة والحياة شيئا واحدا بدا لنا الدهليز المرعب، والغاية المريعة التي تقودنا إليها هذه الفلسفة. بينما تقودنا فكرة المتنبي على بساطتها، وبعدها عن التحليل الفيزيولوجي إلى واحة هادئة مريحة.
فالشاعر العربي، والفيلسوف الألماني يلتقيان في هوان الإرادة، ولكن شتان بين اللقائين. فالفيلسوف يرى الإرادة على هوانها كل شئ... إنها الشخصية... إنها الإنسان... والتنازل عنها تنازل عن الوجود، على أن هذا الوجود وجود شقي لا يستحق الجهاد ما دامت طيبات الحياة كلها عبثا وما دام العالم فاشلا في كل ما يقصد إليه. فاستخفاف الفيلسوف بالإرادة مستمد من استخفافه بالوجود كله، وما دام الوجود كله تافها والإرادة هي الوجود كانت الإرادة هينة! فإذا تخليت عنها في ضوء هذه النظرة فلست بخاسر شيئا إن لم تكن رابحا... والدعوة إلى تركها دعوة إلى البعد عن الخسائر. بينما الشاعر العربي لا يراها هذه الرؤيا... إنه يراها شيئا... وقد تكون شيئا مهما. ولكنه على أهميته ينبغي التخلي عنه إذا أدى إلى التصادم... إذا أدى إلى العداوة. فالتأدية إلى العداوة عند الشاعر هي التي تلقي الهوان على الإرادة فقط، لا وجود الإرادة نفسها، وبإضافة التأدية إلى العداوة يلتقي المتنبي مع شوبنهور في قوله:
ما دمنا مدفوعين لإرادة هذا الشئ أو ذاك فيستحيل أن نحيا في سعادة كاملة، أو في سلام دائم.
فنظرة الشاعر تنتهي كما رأينا إلى أن الإرادة شئ والدعوة إلى تركها والتخلي عنها تضحية... ولكنها تضحية في سبيل التخلص من العداوة... في سبيل سلام دائم بين الناس. ووراء هذه النظرة عنصر إنساني يمدها بالجمال والقوة. أما التخلي عنها بنظر الفيلسوف فليس بعيدا عن التضحية فقط! وإنما هو تخلص من شر... تخلص من مرض!... تخلص من آلام ومتاعب!
ووراء هذه النظرة يقف كل ما في الحياة من خوار ووعوعة... وما من شك بان القرن التاسع عشر، وما تم فيه من رأسمالية شرهة، واستعمار منهوم يمد نظرة الفيلسوف الألماني بكل ما فيها من سواد وظلمة.
إن عصر المتنبي وإن كان لا يقل قلقا عن عصر شوبنهور مع اختلاف الأسباب الداعية إلى القلق طبعا بيد أن نظرة الشاعر في هذا الموضوع بالذات ظلت أصفى من نظرة الفيلسوف، وأدق منها كثيرا. وقد ظل الجوهر الإنساني حيا في نفس الشاعر على رغم القلق المريع في عصره.
على أن الشاعر لا ينسى وهو في هذا الصفاء الإنساني أن الإنسانية لا نعني التسامح المطلق، أو التضحية من أحد الجانبين، أو تنازل أحد الطرفين فقط. الإنسانية لا تعني استغلال المؤمن بها لمنفعة الكافرين بالانسان، وبالقيم العليا، وإنما هي تسامح عام وتنازل مشترك بين الناس. وإذا حولها الكافرون بها إلى استغلال انقلبت عند المؤمنين بها إلى هوان ولم تعد إنسانية بل ذلا أو نوما على الذل. وإذا فهمت على أنها نوم أو تغاض كان على المؤمن بها أن يعرف كيف يواجه هذا الفهم القذر... عليه أن يستعد، ويقف للرد ولو لاقى في رده المنايا الكالحات:
غير أن الفتى يلاقي المنايا * كالحات ولا يلاقي الهوانا وكان الشاعر يريد أن يقول: نحن مستعدون للتنازل عن مراد النفوس، لأن مرادها أصغر من أن تكون العداوة ثمنا له. ولكن حذار أن يفهم هذا التنازل على أنه جبن أو هزيمة فنحن مستعدون في سبيل إعادتكم إلى الفهم الصحيح أن نلاقي المنية ولو كانت كالحة. ونحن مدركون أن الحياة مقبلة على الفناء، وأنها قصيرة مهما طالت. ومع ذلك فنحن مستعدون لاختصارها أكثر إذا كنتم تظنون أن تنازلنا عن مراد النفوس هزيمة وخوف منكم. ويكاد لشدة حرصه على هذا المعنى أن ينقلب عن فكرته الأساسية إلى مبشر بالنضال:
ولو أن الحياة تبقى لحي * لعددنا أضلنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تكون جبانا وهكذا يمضي الشاعر في طرح المسألة: فمراد النفوس صغير، بل وأصغر من أن ندفع العداوة ثمنا له، ولكن حذار أن يفهم ذلك على أنه هزيمة، فان المسألة عندئذ تتخذ شكلا آخر... شكلا فيه كثير من العنف والتحدي.
وطرح المسألة بهذا الشكل يضع النقاط على الحروف، ويديرها في إطارها الذي يجب أن تدور فيه: فالتسامح شئ جميل، ولكن على شرط أن يبتعد عن الجو الصوفي... أن يبتعد عن الحب المطلق وأن يبقى قريبا من الحكمة القائلة:
وقالت لنا قولا أجبنا بمثله * لكل كلام يا بنين جواب ولو كانت بثينة محبوبة إلى حد التقديس!.
والمتنبي بهذه اللحظة يعبر عن الفطرة الإنسانية الصافية، ويشير إلى الجوهر الإنساني المغطى بفلسفة المصالح، المقنع بالأضاليل. هذه اللحظة هي