فؤاد ما تسليه المدام * وعمر مثل ما تهب اللئام (1) ودهر ناسه ناس صغار * وإن كانت لهم جثث ضخام وما أنا منهم بالعيش فيهم * ولكن معدن الذهب الرغام أرانب غير أنهم ملوك * مفتحة عيونهم نيام وظلت الأيام تطاوله وتماطله حتى آذنت بان يجد الشاعر الثائر بطله الفارس المجاهد، والتقيا معا أول مرة، عند أبي العشائر في أنطاكية سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة هجرية، وحظي شاعر العروبة الأكبر أبو الطيب المتنبي بمجاهد العروبة الأكبر يومئذ، سيف الدولة أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان، أمير حلب وقد كان كلاهما ينتظر صاحبه منذ زمن...
سلكت صروف الدهر حتى لقيته * على ظهر عزم مؤيدات قوائمه (2) مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه * ولا حملت فيها الغراب قوادمه فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله * وخاطبت بحرا لا يرى العبر (3) عائمه والأمر في لقاء المتنبي لسيف الدولة، أنه ظاهرة تحول وانتقال في نفسية أبي الطيب وفي شعره وفي شخصيته جميعا... ومن هذه الظاهرة، بعد أن تتضح لنا في ما يأتي، نخلص إلى حقيقة ذات شان كبير في الوصول إلى جانب النزعة القومية عند المتنبي.
يكفي أن يرجع الناقد الباحث إلى ديوان المتنبي يدرس قصائده بتعمق وتذوق، ليعلم أن شعره في هذه السنوات التسع التي صحب فيها بطله العربي المناضل وحده عن ثغور الدولة العربية ضد غزوات الروم الطامعين بانتقاص هذه الدولة أطرافها، ليتسنى لهم القضاء على سلطانها كله أقول: ليعلم أن شعر أبي الطيب في هذه السنوات التسع قد جاء بأروع ما كانت تختزن عبقريته من طاقات شعرية وقوى ثورية.
نحن نحس في قصائد أبي الطيب عند سيف الدولة أنه ينطلق فيها من جانب في نفسه يختلف كثيرا عن تلك الجوانب كلها التي كان يصدر عنها شعره في غير سيف الدولة من جميع ممدوحيه، سواء منهم الذين مدحهم قبل لقائه سيف الدولة، أم الذين مدحهم بعد ذلك، إلى أن لقي حتفه.
وذلك الجانب الذي نعني، ليس هو مجرد حبه لشخص سيف الدولة بما أنه سيف الدولة بذاته، وليس هو مجرد إعجابه بذكاء سيف الدولة أو ببطولته، بما أنه ذكاء وأنها بطولة وكفى، وليس هو مجرد رضاء نفسه بما لقي في رحاب سيف الدولة من إجزال في عطائه وتقدير لشعره ورفع لقدره، بل الأمر كما نحس في جميع قصائده بسيف الدولة يجاوز هذا كله إلى أن المتنبي وجد في صحبة هذا الأمير الفارس، وفي جهاده المتواصل الدائب، والمظفر في أكثر الأحيان، وجد في ذلك إرواء وشبعا لثورته القديمة المكبوتة، وإرضاء وتجسيدا لنزعته القومية التي صحبت تلك الثورة وعاشت فيها ونمت نموها وهي تتفاعل معها، حتى تمازجتا تمازج إلفة ووحدة.
لقد قيل في بعض ما يروي الرواة، أو في بعض ما يشيع في الأذهان، أن المتنبي كان جبانا، فإذا صح هذا فان الذي كانوا يرونه جبنا فيه، قد ظهر من سيرته عند أمير حلب الحمداني أنه لم يكن جبنا حقا، وأنا لا أعلم ولا أذكر حادثة واضحة تدل على جبنه، بل كان ذلك كما يبدو عزوفا من المتنبي عن إظهار جرأته في غير موطنها الذي تستحقه... ونحن لا نعلم في أخبار ثورته ببادية حمص ما يكشف بوضوح عن هذه القضية، فما تزال هناك حلقة مفقودة في أخبار هذه الثورة...
وقد رأينا أبا الطيب يقبل على ممارسة فنون الفروسية والقتال مع سيف الدولة ويخوض معه معارك الجهاد ضد غزوات الروم، ونراه في المعركة يخرج منها سيف الدولة منكسرا، مثله في المعركة يخرج منها سيف الدولة منتصرا أي أننا نراه في الحالين يطلع بعد المعركة بشعر هادر ثائر رائع، يطفح فيه الأمل بالنصر بعد الهزيمة، أو يطفح فيه الأمل بالنصر بعد النصر. فهل كان هذا مجرد إعجاب ببأس سيف الدولة وشجاعته؟... أكان هذا مجرد مدح لأجل المدح ذاته؟.
كان يمكن أن يصح القول هذا لو أن ذلك الشعر لا يختلف في مستواه الفني وفي نبضات الحياة فيه عن غيره من الشعر الذي قاله أبو الطيب في غير سيف الدولة، ولكنه مختلف جدا، فشعره هذا بسيف الدولة يهدر هديرا عجيبا وينبض بالقوة والفرح والصدق والحرارة والحماسة، فالشاعر هنا يخرج من المعركة وهي تضج في دمه ومشاعره وأمانيه وأشواقه، يخرج منها وهي تجربة من تجارب نفسه وعقله تملأ جوانب نفسه وعقله، فلا يكون الشعر هنا إلا هذه التجربة النفسية العقلية الشخصية ذاتها متجاوبة مع أصداء تلك النزعة الكامنة النامية عنده أبدا، نزعته القومية.
إن وراء هذا الشعر الهادر الثائر الرائع، أمرا حقيقيا هو غير ما نعرف في سائر شعر المتنبي، وذلك أن المتنبي كان يدخل المعركة مع سيف الدولة، وهو يمزج عواطفه لشخص سيف الدولة بعواطفه لهذا الجهاد العربي الذي يحمي الثغور ويدفع الأخطار عن دولة العرب وسلطان العرب.
وهنا نذكر ملاحظة دقيقة عميقة لاحظها الدكتور طه حسين في الفرق بين مدائح المتنبي للفارس العربي سيف الدولة، وبين مدائحه لجماعة من غير العرب، فهو حين يمدح هؤلاء الجماعة يتجنب التعرض لمدح أجناسهم الأجنبية، ويكتفي بمدح أشخاصهم، فان تجاوز أشخاصهم لم يتجاوز أن يذكر ما لآبائهم من الاسلام وفي ظل الدولة العربية (4).
ويلاحظ الدكتور طه حسين، بهذه المناسبة، أن المتنبي قد اتخذ العربية مذهبا سياسيا وفلسفيا، ولكن يأخذ عليه أنه خرج على مذهبه هذا في قصيدته التي مدح بها علي بن صالح الروذباري والي دمشق، حين فر من طرابلس إلى دمشق، وهو في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، وفيها يقول:
ليس كل السراة بالروذباري * ولا كل ما يطير بباز فارسي له من المجد تاج * كان من جوهر على أبرواز وبآبائك الكرام التأسي * والتسلي عمن مضى والتعازي تركوا الأرض بعد ما ذللوها * ومشوا تحتهم بلا مهماز