مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٢٣
فؤاد ما تسليه المدام * وعمر مثل ما تهب اللئام (1) ودهر ناسه ناس صغار * وإن كانت لهم جثث ضخام وما أنا منهم بالعيش فيهم * ولكن معدن الذهب الرغام أرانب غير أنهم ملوك * مفتحة عيونهم نيام وظلت الأيام تطاوله وتماطله حتى آذنت بان يجد الشاعر الثائر بطله الفارس المجاهد، والتقيا معا أول مرة، عند أبي العشائر في أنطاكية سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة هجرية، وحظي شاعر العروبة الأكبر أبو الطيب المتنبي بمجاهد العروبة الأكبر يومئذ، سيف الدولة أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان، أمير حلب وقد كان كلاهما ينتظر صاحبه منذ زمن...
سلكت صروف الدهر حتى لقيته * على ظهر عزم مؤيدات قوائمه (2) مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه * ولا حملت فيها الغراب قوادمه فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله * وخاطبت بحرا لا يرى العبر (3) عائمه والأمر في لقاء المتنبي لسيف الدولة، أنه ظاهرة تحول وانتقال في نفسية أبي الطيب وفي شعره وفي شخصيته جميعا... ومن هذه الظاهرة، بعد أن تتضح لنا في ما يأتي، نخلص إلى حقيقة ذات شان كبير في الوصول إلى جانب النزعة القومية عند المتنبي.
يكفي أن يرجع الناقد الباحث إلى ديوان المتنبي يدرس قصائده بتعمق وتذوق، ليعلم أن شعره في هذه السنوات التسع التي صحب فيها بطله العربي المناضل وحده عن ثغور الدولة العربية ضد غزوات الروم الطامعين بانتقاص هذه الدولة أطرافها، ليتسنى لهم القضاء على سلطانها كله أقول: ليعلم أن شعر أبي الطيب في هذه السنوات التسع قد جاء بأروع ما كانت تختزن عبقريته من طاقات شعرية وقوى ثورية.
نحن نحس في قصائد أبي الطيب عند سيف الدولة أنه ينطلق فيها من جانب في نفسه يختلف كثيرا عن تلك الجوانب كلها التي كان يصدر عنها شعره في غير سيف الدولة من جميع ممدوحيه، سواء منهم الذين مدحهم قبل لقائه سيف الدولة، أم الذين مدحهم بعد ذلك، إلى أن لقي حتفه.
وذلك الجانب الذي نعني، ليس هو مجرد حبه لشخص سيف الدولة بما أنه سيف الدولة بذاته، وليس هو مجرد إعجابه بذكاء سيف الدولة أو ببطولته، بما أنه ذكاء وأنها بطولة وكفى، وليس هو مجرد رضاء نفسه بما لقي في رحاب سيف الدولة من إجزال في عطائه وتقدير لشعره ورفع لقدره، بل الأمر كما نحس في جميع قصائده بسيف الدولة يجاوز هذا كله إلى أن المتنبي وجد في صحبة هذا الأمير الفارس، وفي جهاده المتواصل الدائب، والمظفر في أكثر الأحيان، وجد في ذلك إرواء وشبعا لثورته القديمة المكبوتة، وإرضاء وتجسيدا لنزعته القومية التي صحبت تلك الثورة وعاشت فيها ونمت نموها وهي تتفاعل معها، حتى تمازجتا تمازج إلفة ووحدة.
لقد قيل في بعض ما يروي الرواة، أو في بعض ما يشيع في الأذهان، أن المتنبي كان جبانا، فإذا صح هذا فان الذي كانوا يرونه جبنا فيه، قد ظهر من سيرته عند أمير حلب الحمداني أنه لم يكن جبنا حقا، وأنا لا أعلم ولا أذكر حادثة واضحة تدل على جبنه، بل كان ذلك كما يبدو عزوفا من المتنبي عن إظهار جرأته في غير موطنها الذي تستحقه... ونحن لا نعلم في أخبار ثورته ببادية حمص ما يكشف بوضوح عن هذه القضية، فما تزال هناك حلقة مفقودة في أخبار هذه الثورة...
وقد رأينا أبا الطيب يقبل على ممارسة فنون الفروسية والقتال مع سيف الدولة ويخوض معه معارك الجهاد ضد غزوات الروم، ونراه في المعركة يخرج منها سيف الدولة منكسرا، مثله في المعركة يخرج منها سيف الدولة منتصرا أي أننا نراه في الحالين يطلع بعد المعركة بشعر هادر ثائر رائع، يطفح فيه الأمل بالنصر بعد الهزيمة، أو يطفح فيه الأمل بالنصر بعد النصر. فهل كان هذا مجرد إعجاب ببأس سيف الدولة وشجاعته؟... أكان هذا مجرد مدح لأجل المدح ذاته؟.
كان يمكن أن يصح القول هذا لو أن ذلك الشعر لا يختلف في مستواه الفني وفي نبضات الحياة فيه عن غيره من الشعر الذي قاله أبو الطيب في غير سيف الدولة، ولكنه مختلف جدا، فشعره هذا بسيف الدولة يهدر هديرا عجيبا وينبض بالقوة والفرح والصدق والحرارة والحماسة، فالشاعر هنا يخرج من المعركة وهي تضج في دمه ومشاعره وأمانيه وأشواقه، يخرج منها وهي تجربة من تجارب نفسه وعقله تملأ جوانب نفسه وعقله، فلا يكون الشعر هنا إلا هذه التجربة النفسية العقلية الشخصية ذاتها متجاوبة مع أصداء تلك النزعة الكامنة النامية عنده أبدا، نزعته القومية.
إن وراء هذا الشعر الهادر الثائر الرائع، أمرا حقيقيا هو غير ما نعرف في سائر شعر المتنبي، وذلك أن المتنبي كان يدخل المعركة مع سيف الدولة، وهو يمزج عواطفه لشخص سيف الدولة بعواطفه لهذا الجهاد العربي الذي يحمي الثغور ويدفع الأخطار عن دولة العرب وسلطان العرب.
وهنا نذكر ملاحظة دقيقة عميقة لاحظها الدكتور طه حسين في الفرق بين مدائح المتنبي للفارس العربي سيف الدولة، وبين مدائحه لجماعة من غير العرب، فهو حين يمدح هؤلاء الجماعة يتجنب التعرض لمدح أجناسهم الأجنبية، ويكتفي بمدح أشخاصهم، فان تجاوز أشخاصهم لم يتجاوز أن يذكر ما لآبائهم من الاسلام وفي ظل الدولة العربية (4).
ويلاحظ الدكتور طه حسين، بهذه المناسبة، أن المتنبي قد اتخذ العربية مذهبا سياسيا وفلسفيا، ولكن يأخذ عليه أنه خرج على مذهبه هذا في قصيدته التي مدح بها علي بن صالح الروذباري والي دمشق، حين فر من طرابلس إلى دمشق، وهو في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، وفيها يقول:
ليس كل السراة بالروذباري * ولا كل ما يطير بباز فارسي له من المجد تاج * كان من جوهر على أبرواز وبآبائك الكرام التأسي * والتسلي عمن مضى والتعازي تركوا الأرض بعد ما ذللوها * ومشوا تحتهم بلا مهماز

(1) قالها في المغيث بن علي العجلي في أنطاكية.
(2) من أول قصيدة قالها المتنبي في سيف الدولة، ومطلعها:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه * بأن تسعدا، والدمع أشجاه ساجمه مؤيدات: جمع مؤيد، وهو القوي.
(3) عبر البحر: شطه.
(4) مع المتنبي - طه حسين ص 959.
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370