إنها مأساة المتنبي... فقد حرمته القطيعة مع سيف الدولة مجدا يحرك في ذاته كل طاقات الخلق والابداع، هو مجد الصداقة أولا، ومجد الايمان بالبطولة ثانيا، ومجد القضية التي كان يرى في سيف الدولة بطلها. ثالثا...
لقد حرمته القطيعة هذا المجد، فلم يبق له الدافع العظيم الذي ينشد المطلب العظيم ويفجر الشعر العظيم، كما كان يوم كان في صحبة سيف الدولة.
من هنا نراه ينحدر في مدح رخيص، وفي شعر خمد لهيبه الذي نعرفه يتوقد في القصائد الحمدانية، ونرى الصور الملحمية تختفي كليا من القصائد الكافورية.
ومن هنا أيضا لم يطل عهده بكافور، لأن حاكم مصر كان ينوي منذ البدء أن لا يعطي المتنبي ما يرجوه، بل يماطله بالوعيد حتى يستنفد من مدحه قدر ما يمكن.
فلما أيقن الشاعر أن أمواله التي يرجوها من كافور لن تكون سوى المواعيد تنكر له، وعزف عن مدحه إلى هجائه، ورأينا لهب الشعر يتسعر من جديد في أهاجيه اللاذعة بكافور... ويترقب الفرص للفرار من قبضة حاكم مصر على حال سيئة تقتضيه المسير على قدميه تحت أستار الظلام، ويعود إلى موطنه العراق يائسا تشتعل نار المأساة في جوانحه، لا يدري بعد أين المصير؟...
ولكن تحدث له أحداث، وهو في العراق، إذ تموت جدته، وتأتيه الأنباء والوفود من سيف الدولة فتتحرك شاعريته بأمر جديد، ويتأجج وجدانه بلهب جديد، فإذا مرثيته لجدته، ومرثيته لأخت سيف الدولة، ترجعان إلى شعره روعة النغم النابع من مصادره الوجدانية العميقة الصادقة الدافقة...
ثم يختم حياته القلقة ببضع مدائح ليست في مستوى شعره العظيم، يقولها بابن العميد وعضد الدولة عند تلبية دعوتهما في فارس... ويسدل الستار بمصرعه الفاجع عند عودته إلى موطنه الأول، الكوفة... يسدل الستار على تلك الحياة المتعبة المتناقضة، ويبقى شعره مجدا باقيا له وللأدب العربي لن ينطفئ وهجه أبدا...
المتنبي في شعب بوان قال محمد شرارة:
قد تكون وقفة التاريخ مع المتنبي أطول الوقفات التي عرفها مع الأدباء عامة والشعراء خاصة. وإذا استعرضنا ما قيل فيه وعنه وجدنا سيلا من الأفكار والعواطف المختلفة ينتشر حوله، ويدور حول حياته وأدبه، بينما لم ينل غيره سوى قطرات.
والإطار العام الذي وضعه التاريخ فيه لا يتعدى الكبرياء والغطرسة والغرور وما أشبه ذلك من المعاني التي توحيها قصائده أو معظم قصائده.
وكان من وراء الإطار المذكور شيوع الصور المتكبرة وانطباعها في النفوس عن الشاعر بحيث أصبح ذكره كافيا لأن ينقل إلى نفس السامع معاني الكبرياء والغطرسة والغرور.
وإذا شاعت هذه المعاني عن شخص وضعت بينه وبين الناس هوة أو أسلاكا شائكة يصعب اجتيازها، وأصبح مكروها ممقوتا يثير ذكره معاني الاشمئزاز، لأن الصفات المذكورة تؤدي بصاحبها إلى احتقار الآخرين، والحط من شانهم، والإنسان مهما كان، يرفض احتقار الآخرين، ويرى فيه إهانة لنفسه، ولا يرى موجبا للاتصال بمن يحتقره، ويحاول إهانته إلا إذا كانت كرامته ضئيلة، وكان له نفع من وراء الخضوع للإهانة، فإنه عندئذ يبلع الإهانة في سبيل المنفعة الخاصة، ويتحمل كبرياء غيره، ويرضى بالذل.
ولا نعرف للشاعر جولة في هذا الميدان: ميدان المنافع حتى يتحمل المتصلون به في سبيل ذلك غطرسته وكبرياءه!.
هذا الإطار الذي خطه التاريخ حول الشاعر هو الخط البارز في حياته، وفي شعره. ولم يكن التاريخ جانيا ولا ظالما حينما وضع هذا الإطار حوله... لم يكن جانيا كل الجناية، ولا ظالما كل الظلم، ولكن قد يكون في تخطيطه بعض الجناية لأن هناك ومضات حلوة سائغة هاربة من ذلك الإطار التاريخي المعروف، هذه الومضات خالية من الكبرياء والغطرسة والغرور وما أشبه ذلك من المعاني التي توحيها قصائده أو معظم قصائده!.
وقد وقف صديقنا الأستاذ حسين مروة في بحثه القيم عنه على ومضة من تلك الومضات الصافية، وأخرج الشاعر من الإطار التاريخي المعروف، أخرجه منه إلى عالم جميل... عالم مناضل يذيب نفسه في سبيل العقيدة أو الفكرة. ولكن صديقنا كبر الومضة وخلق منها هالة واسعة... هالة عظيمة تكاد تخرج الشاعر من الإطار الذي وضعه فيه التاريخ، وتضعه في إطار معارض له. فاعتبار المتنبي... شاعر الجهاد العربي شئ كبير تؤاخذ عليه المقاييس العلمية. ونحن الذين اعتدنا والأستاذ مروة في طليعتنا أن نستشير الفلسفة القائمة على العلم فيما نقول أو نكتب، نستكبر أن يكون المتنبي... شاعر الجهاد العربي، ونرى في هذا الوصف هالة أو وساما لا يستحقه الشاعر.
ومهما يكن الأمر فالإطار الذي وضعه التاريخ حول الشاعر لم يكن عادلا كل العدالة، كما أن الهالة الرائعة التي وضعه فيها الأستاذ مروة كانت كبيرة عليه، وفوق ما يستحقه. ووضع الأمور في نصابها يدفعنا إلى محاسبة التاريخ، ومحاسبة الأستاذ مروة أيضا وإن اختلفت وجهة الحساب. فالمتنبي لم تكن حياته كلها أنانية وعجرفة كما يصوره التاريخ، ولا كانت جهادا في سبيل العرب والعروبة كما حاول أن يصوره الأستاذ مروة.
والمقياس الدقيق الذي وضعه الأستاذ في تحليل النزعة القومية هو نفسه يخرج المتنبي من تلك الهالة ويبعده عنها مسافة كبيرة، ولكنه وإن أخرج منها يبقى في شعره نبرات منها، وهذه النبرات هي التي أغرت الأستاذ مروة، وزينت له أنها أكثر من مجرد الشعور وجذبته إليها تلك الجاذبية التي جعلته يحسها نغمات عميقة منبعثة عن فكرة موسيقية مدروسة، صادرة عن آلات منسجمة متوافقة تعرف كل آلة منها اللحن المفروض عليها، وهي في آخر المطاف نبرة... نبرة فقط.
والذي لا ريب فيه أن الشعور بالقومية تفلت من الذات، وانطلاق نحو أفق أوسع، وهو بالتالي شعور بالمسؤولية نحو الآخرين... شعور بالانتقال من أنا إلى نحن. وفي هذا الانتقال تتلقى الذات شحنة إنسانية. وفي نبرة المتنبي تحول من الذاتية الطاغية على حياته، وبداية شعور بان وراء ذاته شيئا