ينتهي إلى قبيلة من القبائل، لتغير كثير جدا من القيم التاريخية (1) المعاصرة.
فالمتنبي، إذن، عربي الأصل، لا يشك في ذلك أحد من المؤرخين ولا الباحثين، قدامي ومحدثين، والمتنبي نفسه قد نفى من حيث لا يقصد قطعا أسباب الشك في أصله العربي، حين قال في معرض الفخر بنفسه أثناء قصيدة من شعر الصبا:
لا بقومي شرفت، بل شرفوا بي * وبنفسي فخرت، لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد * وعوذ الجاني، وغوث الطريد بل هو لا يقتصر هنا على أن يؤكد نسبته وأصله العربي، وإنما هو يغلو بهذا الأمر حتى يرى قومه في ذؤابة العرب، بهم يفخر كل من نطق لغة العرب...
ونحن إذا فرغنا من هذا الأمر، أي من نسبة المتنبي إلى العربية، فقد بقي أن نفرع الآن للأمر الأهم من ذاك، وهو أمر نزعته العربية، أو ما نسميه في لغة العصر بالنزعة القومية، نقصد بها شعور المرء شعورا عميقا راسخا بان كيانه الشخصي، من نواحيه الإنسانية والوجدانية، مرتبط وجودا وحياة ومصيرا، بهؤلاء القوم، أو بهذا الشعب الذي تنميه إليه وشائج النسب والتاريخ والتراث واللغة والثقافة والمفاخر والوقائع والتقاليد، فضلا عن وشائج الأرض، ومصالح العيش، وبواعث الآمال الكبيرة والأشواق العليا.
ولعل من الدقة أن نقول إن النزعة القومية في الفرد، كما نعنيها هنا، هي أكثر من مجرد الشعور بهذا الارتباط، فلا بد من إضافة شئ آخر إلى ذلك، وهو أن يكون هذا الشعور من القوة والعمق والوعي بحيث يرى الفرد أن أحزانه الشخصية وأفراحه، مناقبه ومعايبه، عزته وذلته، سعادته وبؤسه، منصهرة كلها، أو منفعلة بالأقل في كل ما يتاح لقومه أو شعبه من أفراح وأحزان، ومن انتصارات وهزائم، ومن مناقب ومعايب، ومن عزة وذلة، ومن سعادة وبؤس.
ولعل من الدقة أيضا أن نضيف إلى ذلك أمرا آخر، وهو أن يكون هذا الانصهار أو هذا الانفعال من قوة الأثر بحيث ينعكس تلقائيا، دون تكلف متعمد، في حياة الفرد، أي في سلوكه العملي، في ما يفعل وما يدع من أمور الحياة العملية، في ما يحب وما يكره، في ما يأتي من أمر وما يصدر عنه من فكر أو رأي أو فن أو أدب إذا كان من ذوي الفكر أو الرأي أو الفن أو الأدب.
فما ذا كان المتنبي من النزعة القومية هذه؟...
نستطيع أن نجيب عن ذلك بان المتنبي كان عربي النزعة، بالمعنى الذي قلنا، كما هو عربي النجار عربي النسب.
تحدثنا كتب التاريخ والأدب العربي عن مولد أبي الطيب ونشأته وبيئته، فنعلم أنه ولد في الكوفة بالعراق سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة، أي في ذلك المركز الثقافي الأصيل من مراكز الثقافة العربية الخالصة، وفي تلك البيئة التي أقلق أمرها وعصف باهلها ما كان يقلق يومئذ أمر الدولة العربية الاسلامية كلها، ويعصف باهلها جميعا من اضطراب سياسي واجتماعي، وفي أوائل ذلك القرن الرابع الهجري الذي ورث عن سابقه شؤونا عجابا من ذلك الاضطراب السياسي والاجتماعي في كيان هذه الدولة الوسيعة الرقعة المترامية الجوانب في ثلاث قارات من الأرض...
وقد أضاف هذا القرن الرابع، إلى ذلك، اضطرابا أشد أثرا وأعمق غورا وأوسع مدى، بحيث شمل طبقات مختلفة، وأمصارا عدة، وشؤونا كثيرة من شؤون الحياة، وزاد في ذلك الاضطراب أنه كان ينبع من الداخل ويأتي من الخارج في وقت معا:
في الداخل انقسام واحتراب بين ملوك الأمصار وأمرائها وولاة أمرها من جانب، ثم بين هؤلاء وبين مركز الخلافة بالعراق من جانب... وقيام ثورات شعبية وانتفاضات اجتماعية تنقم على نظام الحياة والدولة من جانب آخر.
وفي الخارج، وبالأصح: على حدود الدولة من الشمال، تتوالى الغارات من جانب الروم الطامعين في الفتح والاكتساح، لانتقاص أطراف الدولة العربية شيئا فشيئا حتى يتاح لهم القضاء على سلطانها كله.
وتحدثنا كتب الأدب والتاريخ كذلك أن أبا الطيب ولد ونشأ حينذاك في بيت فقر وإعواز، وفي بيئة كدح ورهق، ولكنه على ذلك استطاع أن ينال في الكوفة نصيبا من ثقافة، ثم أن يخرج إلى بعض نواحي البادية في العراق، وهو ما يزال في غرارة الصبا، فيفقه هناك بعض ما كان يجب أن يفقه من فصاحة البادية، ولكن هذا كان أيسر ما أفاده من إقامته بعض الوقت هناك... ذلك بان الرواة حين يتحدثون عن شانه في البادية يلمحون حينا ويصرحون حينا بأنه ربما اتصل فيها بحركة القرامطة، أو ببعض دعاتها، وأن هذه الصلة، وإن جاءته وهو في حداثة السن، ربما أيقظت فيه شيئا من ثورة ونقمة: ثورة أصابت هوى عميقا من نفسه، إذ هاجت فيها مشاعر الفتى المحروم، ونقمة نبهت ذهنه الطري إلى مساوئ هذا الحال الذي يبعد أسباب النعمة وأسباب الثقافة عن فئة عريضة من قومه، بينما هو يدني هذه الأسباب كلها إلى فئة خاصة منهم، فيغدق عليها النعمة، ويهئ لها أكبر نصيب من الثقافة والمعرفة.
وقد يكون هذا الذي يقوله الرواة، تلميحا أو تصريحا، واحدا من الأسباب التي أوقعت في نفس المتنبي، وهو صبي، أنه مرجو لأمر خطير من الأمور ربما كان فيه الخير لنفسه ولقومه، وربما كان فيه الوسيلة لتغيير ذاك الحال من الظلم الاجتماعي الذي نبهته إليه الأحداث المضطربة الفاجعة من جهة، ونبهته إليه كذلك ضعة حاله وإعواز أهله ولوعة حرمانه، من جهة ثانية.
وفي ديوان أبي الطيب أبيات ثلاثة كل ما نعرف عنها من الديوان أنه قالها في صباه، ونستطيع أن نعرف، استنتاجا، أنه قالها في الكوفة قبل أن يبرحها إلى بغداد، وبعد أن رجع إليها من البادية، ذلك لأنه كان في الخامسة عشرة حين وفد إلى بغداد أول مرة، فلم يكن صبيا إذن، وأما قبل أن يخرج من الكوفة إلى البادية، فقد كان في سن ليس من اليسير التصديق بأنه يقول فيها شعرا في مستوى هذه الأبيات الثلاثة:
إلى أي حين أنت في زي محرم * وحتى متى في شقوة، وإلى كم؟
وإن لا تمت تحت السيوف مكرما * تمت وتقاسي الذل غير مكرم فثب واثقا بالله وثبة ماجد * يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم نحن نرى في هذه الأبيات أمرا هو أكثر من ثورة تدفعه إلى تغيير حاله والانتقام لفقره وشقوته، نرى فيها أن الفتى وقد رجع إلى الكوفة من رحلة البادية إنما امتلأت نفسه بأمر كبير يدعوه أن يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم أي أن يخوض حربا يستعذب فيها الموت حتى كأنه الشهد في فمه.