مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٢١
ينتهي إلى قبيلة من القبائل، لتغير كثير جدا من القيم التاريخية (1) المعاصرة.
فالمتنبي، إذن، عربي الأصل، لا يشك في ذلك أحد من المؤرخين ولا الباحثين، قدامي ومحدثين، والمتنبي نفسه قد نفى من حيث لا يقصد قطعا أسباب الشك في أصله العربي، حين قال في معرض الفخر بنفسه أثناء قصيدة من شعر الصبا:
لا بقومي شرفت، بل شرفوا بي * وبنفسي فخرت، لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد * وعوذ الجاني، وغوث الطريد بل هو لا يقتصر هنا على أن يؤكد نسبته وأصله العربي، وإنما هو يغلو بهذا الأمر حتى يرى قومه في ذؤابة العرب، بهم يفخر كل من نطق لغة العرب...
ونحن إذا فرغنا من هذا الأمر، أي من نسبة المتنبي إلى العربية، فقد بقي أن نفرع الآن للأمر الأهم من ذاك، وهو أمر نزعته العربية، أو ما نسميه في لغة العصر بالنزعة القومية، نقصد بها شعور المرء شعورا عميقا راسخا بان كيانه الشخصي، من نواحيه الإنسانية والوجدانية، مرتبط وجودا وحياة ومصيرا، بهؤلاء القوم، أو بهذا الشعب الذي تنميه إليه وشائج النسب والتاريخ والتراث واللغة والثقافة والمفاخر والوقائع والتقاليد، فضلا عن وشائج الأرض، ومصالح العيش، وبواعث الآمال الكبيرة والأشواق العليا.
ولعل من الدقة أن نقول إن النزعة القومية في الفرد، كما نعنيها هنا، هي أكثر من مجرد الشعور بهذا الارتباط، فلا بد من إضافة شئ آخر إلى ذلك، وهو أن يكون هذا الشعور من القوة والعمق والوعي بحيث يرى الفرد أن أحزانه الشخصية وأفراحه، مناقبه ومعايبه، عزته وذلته، سعادته وبؤسه، منصهرة كلها، أو منفعلة بالأقل في كل ما يتاح لقومه أو شعبه من أفراح وأحزان، ومن انتصارات وهزائم، ومن مناقب ومعايب، ومن عزة وذلة، ومن سعادة وبؤس.
ولعل من الدقة أيضا أن نضيف إلى ذلك أمرا آخر، وهو أن يكون هذا الانصهار أو هذا الانفعال من قوة الأثر بحيث ينعكس تلقائيا، دون تكلف متعمد، في حياة الفرد، أي في سلوكه العملي، في ما يفعل وما يدع من أمور الحياة العملية، في ما يحب وما يكره، في ما يأتي من أمر وما يصدر عنه من فكر أو رأي أو فن أو أدب إذا كان من ذوي الفكر أو الرأي أو الفن أو الأدب.
فما ذا كان المتنبي من النزعة القومية هذه؟...
نستطيع أن نجيب عن ذلك بان المتنبي كان عربي النزعة، بالمعنى الذي قلنا، كما هو عربي النجار عربي النسب.
تحدثنا كتب التاريخ والأدب العربي عن مولد أبي الطيب ونشأته وبيئته، فنعلم أنه ولد في الكوفة بالعراق سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة، أي في ذلك المركز الثقافي الأصيل من مراكز الثقافة العربية الخالصة، وفي تلك البيئة التي أقلق أمرها وعصف باهلها ما كان يقلق يومئذ أمر الدولة العربية الاسلامية كلها، ويعصف باهلها جميعا من اضطراب سياسي واجتماعي، وفي أوائل ذلك القرن الرابع الهجري الذي ورث عن سابقه شؤونا عجابا من ذلك الاضطراب السياسي والاجتماعي في كيان هذه الدولة الوسيعة الرقعة المترامية الجوانب في ثلاث قارات من الأرض...
وقد أضاف هذا القرن الرابع، إلى ذلك، اضطرابا أشد أثرا وأعمق غورا وأوسع مدى، بحيث شمل طبقات مختلفة، وأمصارا عدة، وشؤونا كثيرة من شؤون الحياة، وزاد في ذلك الاضطراب أنه كان ينبع من الداخل ويأتي من الخارج في وقت معا:
في الداخل انقسام واحتراب بين ملوك الأمصار وأمرائها وولاة أمرها من جانب، ثم بين هؤلاء وبين مركز الخلافة بالعراق من جانب... وقيام ثورات شعبية وانتفاضات اجتماعية تنقم على نظام الحياة والدولة من جانب آخر.
وفي الخارج، وبالأصح: على حدود الدولة من الشمال، تتوالى الغارات من جانب الروم الطامعين في الفتح والاكتساح، لانتقاص أطراف الدولة العربية شيئا فشيئا حتى يتاح لهم القضاء على سلطانها كله.
وتحدثنا كتب الأدب والتاريخ كذلك أن أبا الطيب ولد ونشأ حينذاك في بيت فقر وإعواز، وفي بيئة كدح ورهق، ولكنه على ذلك استطاع أن ينال في الكوفة نصيبا من ثقافة، ثم أن يخرج إلى بعض نواحي البادية في العراق، وهو ما يزال في غرارة الصبا، فيفقه هناك بعض ما كان يجب أن يفقه من فصاحة البادية، ولكن هذا كان أيسر ما أفاده من إقامته بعض الوقت هناك... ذلك بان الرواة حين يتحدثون عن شانه في البادية يلمحون حينا ويصرحون حينا بأنه ربما اتصل فيها بحركة القرامطة، أو ببعض دعاتها، وأن هذه الصلة، وإن جاءته وهو في حداثة السن، ربما أيقظت فيه شيئا من ثورة ونقمة: ثورة أصابت هوى عميقا من نفسه، إذ هاجت فيها مشاعر الفتى المحروم، ونقمة نبهت ذهنه الطري إلى مساوئ هذا الحال الذي يبعد أسباب النعمة وأسباب الثقافة عن فئة عريضة من قومه، بينما هو يدني هذه الأسباب كلها إلى فئة خاصة منهم، فيغدق عليها النعمة، ويهئ لها أكبر نصيب من الثقافة والمعرفة.
وقد يكون هذا الذي يقوله الرواة، تلميحا أو تصريحا، واحدا من الأسباب التي أوقعت في نفس المتنبي، وهو صبي، أنه مرجو لأمر خطير من الأمور ربما كان فيه الخير لنفسه ولقومه، وربما كان فيه الوسيلة لتغيير ذاك الحال من الظلم الاجتماعي الذي نبهته إليه الأحداث المضطربة الفاجعة من جهة، ونبهته إليه كذلك ضعة حاله وإعواز أهله ولوعة حرمانه، من جهة ثانية.
وفي ديوان أبي الطيب أبيات ثلاثة كل ما نعرف عنها من الديوان أنه قالها في صباه، ونستطيع أن نعرف، استنتاجا، أنه قالها في الكوفة قبل أن يبرحها إلى بغداد، وبعد أن رجع إليها من البادية، ذلك لأنه كان في الخامسة عشرة حين وفد إلى بغداد أول مرة، فلم يكن صبيا إذن، وأما قبل أن يخرج من الكوفة إلى البادية، فقد كان في سن ليس من اليسير التصديق بأنه يقول فيها شعرا في مستوى هذه الأبيات الثلاثة:
إلى أي حين أنت في زي محرم * وحتى متى في شقوة، وإلى كم؟
وإن لا تمت تحت السيوف مكرما * تمت وتقاسي الذل غير مكرم فثب واثقا بالله وثبة ماجد * يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم نحن نرى في هذه الأبيات أمرا هو أكثر من ثورة تدفعه إلى تغيير حاله والانتقام لفقره وشقوته، نرى فيها أن الفتى وقد رجع إلى الكوفة من رحلة البادية إنما امتلأت نفسه بأمر كبير يدعوه أن يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم أي أن يخوض حربا يستعذب فيها الموت حتى كأنه الشهد في فمه.

(1) المصدر السابق ص 19
(٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370