أين عن أداء واجبه القومي المقدس، الذي هو في الوقت نفسه واجبهم أيضا...
ونكتفي بهذه الأمثلة، دون استقصاء، للدلالة على أن المتنبي كان مشغول الذهن والعاطفة، وهو يمدح سيف الدولة في هذه المناسبات، بأمر هذا الجهاد القومي المقدس الذي كان أميره الحمداني يحمل نفسه على النهوض باعبائه وحده في الدولة الواسعة ذات الدويلات العديدة.
والتعريض هكذا بخصوم سيف الدولة الداخليين، ليس هو إلا أيسر الجوانب المعبرة عن اهتمام المتنبي بأمر ذاك الجهاد القومي، وهناك جوانب المدح الخالص لسيف الدولة في قصائده الروميات، بل في كل قصائده التي قالها بهذا الأمير المجاهد، وهي تكاد تزيد عن ثمانين قصيدة ظل ينشئها في مدى تسع سنوات متواليات، وهي بلا شك أعظم شعر المتنبي على الاطلاق، بل من أعظم الشعر القومي في أدبنا العربي.
فهذه قصيدته التي مدح بها سيف الدولة بعد انتصاره على الروم في مرعش انتصارا تاريخيا رائعا، سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة هجرية، يسرد فيها وقائع عدة معارك، ويسمي أمكنتها وأشخاصها، وهي القصيدة التي مطلعها:
ليالي بعد الظاعنين شكول * طوال، وليل العاشقين طويل هذه القصيدة تكاد تكون لوحة كبيرة متقنة الصنع متكاملة الأجزاء، تصف بلاء الأمير الحمداني في جيوش الروم، وتصف فنون الكر والفر، ولكنها ليست وصفا حقيقيا بقدر ما هي غناء وجداني نحس فيه وهج العاطفة ولهب الحماسة وفرح الانتصار، حتى لكان المتنبي ينشئ في كل بيت من القصيدة معركة، ويحرز في كل معركة نصرا، ويتذوق مع كل نصر فرحة جديدة.
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي * فتظهر فيه رقة ونحول لقيت بدرب القلة الفجر لقية * شفت كمدي، والليل فيه قتيل ويوما كان الحسن فيه علامة * بعثت بها، والشمس منك رسول وما قبل سيف الدولة اثار عاشق * ولا طلبت عند الظلام ذخول ولكنه يأتي بكل غريبة * تروق، على استغرابها، وتهول رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا * وما علموا أن السهام خيول شوائل تشوال العقارب بالقنا * لها مرح من تحته وصهيل وما هي إلا خطرة عرضت له * بحران لبتها قنا ونصول ويقول فيها:
وأنا لنلقى الحادثات بأنفس * كثير الرزايا عندهن قليل يهون علينا أن تصاب جسومنا * وتسلم أعراض لنا وعقول إنه هو المتنبي نفسه في المعركة، وهو هنا يتحدث بانفعاله وتجربته واندماجه في القضية التي تدور لأجلها المعركة... هو هنا ليس مادحا للمدح ذاته، وليس مادحا للجائزة ذاتها، وليس مادحا زلفى وتمليقا لصاحبه... هو هنا عربي يهتز كيانه ووجدانه بحركة المعركة، وبقضية المعركة، وبمجد المعركة، ثم بفرح الانتصار في المعركة.
وفي شهر صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة هجرية، يدخل على سيف الدولة رسول من قائد الروم يطلب الهدنة، فينبري المتنبي إلى هذه القصيدة التي مطلعها:
دروع لملك الروم هذي الرسائل * يرد بها عن نفسه ويشاغل هي الزرد الضافي عليه ولفظها * عليك ثناء سابغ وفضائل لم يبدأ الشاعر القصيدة، هذه المرة، بالغزل أو النسيب كعادته، فقد أعجله عن ذلك أمر خطير هو أحق أن يشغل به نفسه ويحذر به أميره... إن الأمر عنده ليس مدح سيف الدولة وكفى، وليس طلب المنزلة أو طلب الجائزة وكفى... بل الأمر الأهم من هذا كله أن يعلم أميره مغزى هذه الهدنة التي يرجوها قائد الروم... هذه الهدنة ليست سوى خدعة يريد أن يدفع بها ملك الروم عن نفسه وجيشه إحدى الهزائم يوقعها به هذا الأمير العربي، سيف الدولة.
فالمتنبي، إذن، يدرك قصد الهدنة هذه، وهو إذن يسارع إلى أميره أن يرفض الهدنة، حتى لا يفيد منها العدو كسبا عسكريا على حساب الدولة العربية.
ويصاب العرب بالهزيمة، بعد النصر، في المعركة التي وقعت قرب بحيرة الحدث، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان سبب الهزيمة أن أتباع سيف الدولة بعد أن انتصروا على الروم عدة انتصارات في تلك السنة، أبوا عليه أن يتابع غزوه للروم، وألحوا عليه في طلب العودة إلى ديارهم، فاستجاب لهم، وعادوا بمغانم النصر وبالأسرى، وبينا هم في طريق العودة فوجئوا بالعدو وقد أحاط بهم، وسد عليهم كل طريق فأوقع بهم الهزيمة، وكان المتنبي من شهود أحداث النصر والهزيمة معا، فلما عادوا إلى حلب كانت نفس الشاعر قد امتلأت ألما وحزنا على ما قد أصيب به الجيش العربي في تلك الحوادث، وسرعان ما أحدث الألم والحزن هذه القصيدة التي مطلعها:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع * إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا أهل الحفيظة، إلا أن تجربهم * وفي التجارب، بعد الغي ما يزع وما الحياة ونفسي بعد ما علمت * أن الحياة كما لا تشتهي طبع ليس الجمال لوجه صح مارنه * أنف العزيز بقطع العز يجتدع فهذه بداءة القصيدة كما ترى، وقد أنشدها سيف الدولة، فهل يبدأ شاعر قصيدة مدح على هذا النحو وهو يقصد إلى مجرد المدح أو مجرد الجائزة أو مجرد الزلفى إلى أميره؟...
أنت تحس في هده البداءة أن شاعر هذه القصيدة امرؤ محزون بالفعل، حاقد حانق أشد الحقد والحنق على أولئك الذين جبنوا عن متابعة الحرب، فأوقعوا الهزيمة بجيشهم وقومهم وأميرهم... وهو ينطلق من هذا الشعور الصادق ليس واصفا ولا مادحا، بل معبرا عن وجدانه المنفعل المتأذي، بما في