الإنسان من التاريخ، كأنه تجارب له، باشرها بنفسه، فأصبح خبيرا بالأمور التي لم يجربها فعلا في حياته، حتى إنه يعرفها بعد ذلك قبل وقوعها، فيستقبلها استقبال الخبر، فيفعل في علاجها الأنسب والأجدى، فيحل مشاكله، وينجح في مشاريعه نجاح الخبير الواعي.
بيد أن مسكويه لا حظ أن تلك الأخبار التاريخية الحقة مغمورة بالأسمار، متبددة في الخرافات والأساطير التي ليست لها فائدة إلا استجلاب النوم بها، والتأنس بالمستطرف منها. فأخذها بالنقد واستخراج ذات القيمة منها، وضرب صفحا عما لم يجد فيها قيمة تاريخية تجريبية وتركها وهو يرى أن للأحداث التاريخية الحقة أيضا أنس السمر الذي يوجد في الخرافات والأساطير. إن مسكويه لم يثق بروايات ما قبل الطوفان، لفقدانها القيمة التاريخية التي ينشدها هو، كما لم يجد في المعجزات تجربة إنسية يستطيع الجميع أن يمارسوا مثلها، أو يعتبروا بها، وهذا لا يعني أنه ترك ما كان للأنبياء من تدابيرهم البشرية التي ليست مقرونة بالاعجاز، لأن هذا النمط من أخبارهم وارد في صميم ما اهتم به مسكويه في كتابة التاريخ.
مع العلم بان لمسكويه كتابا في صفات الأنبياء السالفين تحت عنوان: أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السالفين أنظر التصدير: الآثار. وهذا رد على المستشرق كزادي فو 106 في ما اتهمه به من أنه لم يحترم السنة. وأخيرا، عمد مسكويه إلى أحداث تجري على البخت والاتفاق، مما هو خارج عن نطاق تدبير الإنسان وقدرته، حتى تكون في حسبانه، ولا تسقط من ديوان الحوادث عنده، وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرزا من مكروهه.
إنه لن ينسى ما ضمنه في مقدمة الكتاب، بل نراه يؤكد هنا وهناك، وبمناسبات شتى، على أغراضه ويصر على المضي في النهج الذي نهجه لنفسه في عمله. فحينا نراه يبرر تركه ذكر بعض الأشياء بقوله: لخروجها عما بنينا عليه غرض هذا الكتاب 264 1 وحينا يؤكد على هذا الغرض حتى في عنوان حدث أراد ذكره، ففي عنوان الحديث عن الشورى يقول: ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب. وكذلك وبعد أن ينقل الحوار الذي جرى بين الإمام علي بن أبي طالب والزبير: الحوار الذي أثر في الزبير حتى أقسم أن لا يحارب عليا لولا وسوسة ابنه له واقتراحه التكفير عن اليمين بعتق غلام له، يقال له: مكحول وبعد إيراده هذا الحدث نراه يقول: وإنما حكينا هذه الحكاية لأن فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب على قوم فانا ننبه عليه، وذلك أن المحنق ربما سكن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتي من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه. 550 1 ولا يهمه في ذلك شخصية القائل أو الفاعل، ولا ينظر إلى من قال أو فعل، بل يهمه مغزى ما قال أو فعل، من حيث تلاؤمه وأغراضه في كتابه تجارب الأمم. فنراه يستحسن موقفا من مواقف الضحاك الشهير بالسفك والقتل والظلم، وينقل كلاما منه حيث قال في الإجابة على أمه البذيئة: فلما هممت بالسطوة بهم أي: بكابي الأصبهاني وأصحابه عند ما زاروه للتأتي له واستعطافه 14 151 وقف الحق بيني وبينهم كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت. ثم يعلق مسكويه على هذا الكلام بقوله: فهذا ما استحسن من فعل الضحاك وقوله ولا يعرف له شئ مستحسن غيره. إن هذا الالتزام الواعي الذي يبديه مسكويه تجاه منهجه، هو ما لا نراه عند كثير من المصنفين. فمسكويه، كما قال روزنتال 196، 197 يمثل مستوى عاليا في الكتابة التاريخية، فهو قلما يهتم بالأمور التافهة، بل يدرك كل ما له قيمة تاريخية جوهرية ويعرض الأحداث الهامة بشكل معقول متماسك.
إن المؤرخين المسلمين ومعظمهم ممن تأخر عن مسكويه وربما تأثر به بالذات نظروا إلى التاريخ من حيث هو درس وعظة وعبرة، ولكن مسكويه، السابق في هذا المضمار، هو المؤرخ الوحيد الذي نهج منهج الاستدلال الفلسفي مع ما كان له من نظرة أخلاقية عملية برغماتية إلى حوادث التاريخ زرياب: 118 بتصرف. إنك لا تجد بين المؤرخين المسلمين مؤرخا عمد إلى التاريخ عن وعي وجد، نشدانا للفوائد التي تنطوي عليها أحداثه، بالمستوى الذي عمد إليه مسكويه. إنه حكيم أخلاقي، ومصنف كتاب حكيم باسم تجارب الأمم. كما هو رائد في الكتابة العلمية للتاريخ، وأول من شق الطريق إلى فلسفة التاريخ، ليكون أسوة حسنة فيما بعد، لأمثال رشيد الدين فضل الله 645 718 ه في جامع التواريخ، وابن خلدون 732 806 ه في مقدمته، ثم الكافيجي القرن التاسع في كتابه: المختصر في علم التاريخ، والسخاوي 830 920 ه في كتابه: الاعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ زرين كوب: 71، 74 بتصرف. وهناك ميزة أخرى أشار إليها كيتاني في مقدمته حيث قال: إن الأثر الذي بقي لنا من مسكويه، بني على أساس منهج قريب جدا من المبادىء المتبعة عند مؤرخي العالم الغربي والمؤرخين المتأخرين، ومسكويه خلافا لسلفه الشهير الطبري الذي استهدف أساسا جمع المواد التاريخية، وعرضها على ترتيب تاريخي لائق، عزم على أن يصنف تاريخه كبناء عضوي يكون الفكر الأساسي المحدد عنصرا بناء في الكتاب بأسره، رابطا كل أجزاء التصنيف بعضها ببعض. يرى القارئ على صفحات هذا الكتاب عنصرا شخصيا لا يجده في المصنفات التاريخية الأخرى المؤلفة في تلك الحقبة.
إن تجارب الأمم وبصورة جلية عمل فكري نتج عن ذهن استدلالي بناء، يسوده انطباع سام من غرض المؤرخ وواجبه، وبهذا، يبدي مسكويه فضلا كبيرا على من سبقه أو عاصره من المؤرخين الذين كتبوا آثارهم باللغة العربية. إنه لا يرضيه مجرد جمع المادة التاريخية وعرضها في ترتيب تاريخي، لأنه يعتقد أن أحداث الماضي تترابط في ما بينها بشبكة من المصالح الإنسية. وفي الحقيقة، فان التاريخ كما يراه مسكويه ليس غير هذا، كما يرى العاقل في رواية التاريخ الحقه ينبوعا من العلم الثمين كيتاني، المقدمة:.
إن مسكويه لا يميل إلى أحد في كتابة التاريخ، ولا يحيد به عن المنهج القويم أي انتماء. لقد كتب تاريخه كما نبه عليه مرجوليوث أيضا في حياد تام، مع أنه عاش في خدمة الأمراء والوزراء البويهيين، وكان من المتوقع أن يشيد بهم ويمدحهم، ولا يتعرض لنقدهم أبدا، في حين نراه لم يمل إليهم في كتابة التاريخ، ولم يراع جانبهم في ما كتبه عنهم، بل يؤاخذهم على أشياء في سلوكهم وتدابيرهم.
مصادر مسكويه في كتابة التاريخ صرح مسكويه بأنه لما قرأ أخبار الأمم، وسير الملوك، وأخبار البلدان، وكتب التواريخ انظر المقدمة: ص 1 وجد فيها ما تستفاد منه تجربة...
وهذا دليل واضح على تعدد مصادره، في كتابة التاريخ. بيد أنه اعتمد اعتمادا كليا على الطبري 224 310 ه، كما اعتمد على المصادر الأخرى التي تتنوع وتختلف، حسب الفترات التاريخية التي أرخها في تصنيفه، وحسب مصادر كانت