غير أن هذا المأخذ هل يصح أن نتخذه دليلا على شعوبية صريحة من المتنبي كما يتهمه الدكتور طه حسين؟. هل مجرد مدح الفرس أو أي قوم آخرين يعد شعوبية صريحة؟... إذا صح مثل هذا فان الدكتور طه حسين مدح أقواما كثيرين كاليونان والفرنسيين في كثير من آثاره الأدبية، فهل يرضى العقل والعلم أن نقول فيه ما يقوله في المتنبي؟.
نعم، إن للمتنبي هفوة غير هذه ننكرها عليه ولا نغتفرها له، ونعتقد أنها تناقض نزعته القومية كل المناقضة، وهي تنحصر في بيت واحد من مجموع شعره كله، بيت قاله في إحدى قصائده بمدح كافور:
وأي قبيل يستحقك قدره * معد بن عدنان فداك، ويعرب!...
ما ندري كيف قال المتنبي هذا البيت وباي حال ولأي غرض، ولكن ندري أنه مهما تكن حاله ومهما تكن الظروف التي أحاطت به، ومهما يكن الغرض الذي قصد إليه، فلا شئ مطلقا يبرر أن يقول كلاما من هذا القبيل، وهو الذي ملكت عليه، في كل شعره، نزعته العربية، ودخلت هذه النزعة في كيانه وفي وجدانه، ثم دخلت في تجربته الشعرية فأنضجت مواهبه وفتقت عبقريته وأخرجت من تجربته هذه، فنا من الأدب القومي يندر نظيره في أدبنا القديم.
ولكنها هفوة واحدة لا تغير شيئا من الواقع الذي كأنه المتنبي، أعني واقع أن أبا الطيب كان أعظم شاعر عربي غنى معارك النضال العربي في زمن كان هذا النضال يحمل أثقاله فارس بني حمدان وحده في أمراء العرب وملوكهم.
ولقد كان أبو الطيب يشعر بثقل المهمة التي يحملها سيف الدولة، ويشعر مع ذلك بتقصير الآخرين من ذوي السلطان في الدولة العربية، بل يشعر فوق ذلك بان هؤلاء لا يكتفون بالقعود عن مناصرة سيف الدولة في مناهضة الغزوات الأجنبية على حدود دولتهم، بل يزيدون فيقلقون على سيف الدولة أمنه الداخلي ويثورون به ويصرفون كثيرا من جهده عن مقاتلة الروم إلى مقاتلتهم في داخل البلاد لاخماد الفتنة أثر الفتنة، ولطالما ألمح المتنبي في قصائده إلى هذا الأمر، ولطالما عرض بهؤلاء تعريض اللائم العاذل...
نسمعه في القصيدة التي يذكر فيها استنقاذ سيف الدولة لأبي وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي، وذلك سنة ثماني وثلاثين وثلاثمائة، وكان الخارجي يطمع في الخلافة والملك (1) ومطلع القصيدة:
الام طواعية العاذل * ولا رأي في الحب للعاقل نسمعه في هذه القصيدة يقول:
أما للخلافة من مشفق * على سيف دولتها الفاصل يقد عداها بلا ضارب * ويسري إليهم بلا حامل وفي هذا البيت الأخير إشارة إلى أن سيف الدولة ناهض وحده في ضرب أعداء الخلافة غير محمول بمعاونة أحد من رجال الخلافة.
وفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة هجرية، أحدث بنو كلاب فتنة ضد سيف الدولة، فسار إليهم وأبو الطيب معه، فأوقع بهم، وقضى على فتنتهم، وأحسن معاملة حريمهم، فلما عاد مظفرا قال أبو الطيب قصيدته التي مطلعها (2):
بغيرك راعيا عبث الذئاب * وغيرك صارما ثلم الضراب وفيها يقول:
ترفق، أيها المولى، عليهم * فان الرفق بالجاني عتاب وإنهم عبيدك حيث كانوا * إذا تدعو لحادثة أجابوا وعين المخطئين هم، وليسوا * بأول معشر خطئوا فتابوا وأنت حياتهم غضبت عليهم * وهجر حياتهم لهم عقاب وما جهلت أياديك البوادي * ولكن ربما خفي الصواب ثم يقول:
وأن يك سيف دولة غير قيس * فمنه جلود قيس والثياب وتحت ربابه نبتوا وأثوا * وفي أيامه كنزوا وطابوا (3) وتحت لوائه ضربوا الأعادي * وذلك لهم من العرب الصعاب ولو غير الأمير غزا كلابا * ثناه عن شموسهم ضباب ولاقى دون ثايهم طعانا * يلاقي عنده الذئب الغراب (4) فالمتنبي هنا يدعو سيف الدولة إلى العفو عن بني كلاب، فهم عرب من قومه، وهم إذن عون له على أعداء العرب إذا احتفظ بهم، ثم تهزه عروبته فيثني على شجاعة هؤلاء الثائرين، وهم إذا كانوا قد انهزموا أمام سيف الدولة فلأنه سيف الدولة، ولو أن غيره جاءهم لثناه عن شموسهم ضباب من غبار فرسانهم وشجعانهم.
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة هجرية، أحدث بنو عقيل وقشير وبنو العجلان وكلاب فتنة أخرى في نواحي الدولة الحمدانية، فقضى سيف الدولة على فتنتهم، فقال أبو الطيب في ذلك قصيدته (5) التي مطلعها:
تذكرت ما بين العذيب وبارق * مجر عوالينا ومجرى السوابق وفيها يقول:
فما حرموا بالركض خيلك راحة * ولكن كفاها البر قطع الشواهق ولا شغلوا صم القنا بقلوبهم * عن الركز، لكن عن قلوب الدماسق (6) وههنا يبدو المتنبي أكثر صراحة في هذه المسألة، فهو يقول للثائرين إن خيل سيف الدولة حين طاردتهم منهزمين لم يحرمها الركض وراءهم راحتها، بل كفاها مؤونة قطع الجبال الشواهق في مطاردة الروم أعداء العرب، وأن رماح سيف الدولة حين أمعنت طعنا في قلوبهم، لم يشغلها هذا الطعن عن أن تكون مركوزة في الأرض دون عمل، وإنما شغلها ذلك عن طعان جيش الروم أعداء الدولة العربية.
ومعنى هذا، كما يريد أن يقول المتنبي، أن هؤلاء العابثين في الداخل، قد صرفوا جيش سيف الدولة عن قتال أعدائهم المغيرين عليهم من الخارج،