اسمه قوم... اسمه عرب.
على أن الدقة العلمية تقتضينا أن نحتاط كثيرا في وصف هذا الشعور وتحديده، وتفرض علينا الحذر في إخراجه، وفي الحجم الذي ينبغي أن يخرج فيه.
والتأمل في الشعور المذكور، المنطوي وراء تلك النبرة يؤدي بنا إلى الحكم بأنه شعور غامض، بعيد عن البلورة. وأبياته التي يقول بها: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي تدل على أنه لا يزال يفهم من كلمة القوم معنى القبيلة:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي * وبنفسي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد، * وعوذ الجاني وغوث الطريد والنطق بالضاد شئ مقصور على العرب كما هو معروف فإذا كان جميع الناطقين بالضاد: أي كل عربي على وجه الأرض يفخر بقوم المتنبي قومه خاصة. فما ذا يكون عندئذ تفسيره لكلمة القوم، وماذا يكون قصده منها؟ وهل يعني غير القبيلة؟ ولكن موقفه أمام انتصار سيف الدولة على بني كلاب يطل بنا على شعور عربي أوسع من الشعور القبلي:
ترفق أيها المولى عليهم * فان الرفق بالجاني عتاب وعين المخطئين هم وليسوا * بأول معشر خطئوا فتابوا فان المطالبة بالرفق منبثق عن عاطفة عربية، أو قد يكون على الأقل منبثقا عن شعور عربي. وربما يتأكد ذلك إذا عرفنا أن بني كلاب ينتمون لقيس، وبني حمدان يرجعون لتغلب، وبين قيس وتغلب ضغائن قديمة، وأحقاد عميقة، وبرغم ذلك يرجو الرفق بهم، ويسمي الرفق عتابا.
واختيار لفظة العتاب في هذا المكان إذا صح أنها عتاب لا عقاب تشير إلى عطف عميق. وكأنه يريد أن يقول إنهم لا يستحقون على جنايتهم أكثر من عتاب والعتاب يكون للصديق عادة إذا أخطأ وإن استعملها بشار في غير ذلك:
إذا الملك الجبار صعر خده * مشينا إليه بالسيوف نعاتبه ولكن هذا الاستعمال قائم على التصرف بالكلمة، والتطوير لها، وإن كان هذا التصرف في منتهى الجمال الفني.
ومهما يكن فاللفظة فيها حنان، وفيها حب، وفيها إحساس جميل نحو الناس الذين نشير إليهم، وإذا لم يكن هذا الاحساس منبعثا عن عاطفة قومية فمن الصعب أن نجد له تعليلا آخر.
وإذا قارنا هذا الموقف بموقف آخر مشابه له من حيث الانتصار، مخالف له من حيث الجناة وجدناه يختلف اختلافا كبيرا. ونستطيع أن نأخذ مثلا على ذلك معظم القصائد التي قيلت بعد انتصار سيف الدولة على البيزنطيين، فان الشاعر لا يطلب فيها رفقا بالمهزومين، ولا شفقة عليهم، ولا عطفا.
وسيف الدولة فيها لم يكن ملكا يهزم ملكا، وإنما كان التوحيد يصارع الشرك ومعنى ذلك أن سيف الدولة هنا مبدأ يصارع مبدأ، وعقيدة تصارع عقيدة.
ولست مليكا هازما لنظيره * ولكنك التوحيد للشرك هازم تشرف عدنان به لا ربيعة * وتفتخر الدنيا به لا العواصم فهذه النظرة المختلفة إلى الجناة على اشتراكهم في الجناية والجناية بذاتها لا تتجزأ تشير على أقل افتراض إلى عاطفة تختلج بحب الجناة إذا كانوا عربا، وتتجرد منها إذا لم يكونوا كذلك. والعاطفة نحو القوم بداية شعور إنساني... بداية انطلاق من الذات، وانفلات من الأنانية.
وإذا قيل: إن هذه النظرة بدوية أكثر منها قومية، لأن البدوي لا يخرج عن هذه القاعدة في نظرته إلى قبيلته. ومن هنا قيل:
وهل أنا إلا من غزية: إن غوت * غويت، وإن ترشد غزية أرشد فهذا القول صحيح لو كان المتنبي من بني كلاب، وكانت القبلية هي التي تربطه بهم. ولكن المعروف أنه من جعفى الهابطة من سعد العشيرة، بينما تهبط كلاب من عامر بن صعصعة الهابطة بدورها من هوازن وليس بينها هذه القرابة. ومن هنا يمكن أن يعد عطفه على بني كلاب نوعا من القومية.
والقومية كما قلنا بداية شعور إنساني. ولا شك أن المتنبي يمتلك هذا الشعور. وإذا بدا في بعض الأحيان ضعيفا، فإنه يبدو في أحيان أخرى قويا بالغ القوة. وإذا قرأت قوله:
ومراد النفوس أهون من أن * نتعادى فيه وأن نتفانى لمست هذا الشعور، ولمست مدى عمقه وقوته. فالإرادة هي مصدر الشقاء، ومنها تنبع العداوة في الحياة، ولكن الإرادة أهون من أن تبعث على العداوة، والروابط الإنسانية ينبغي أن تكون فوق الإرادة ورغباتها.
والمتنبي بهذه النظرة يسبق شوبنهور الذي تتلخص فلسفته في أن الحياة إرادة. يسبقه في نظرته أو نظريته ويفوقه في وصف العلاج. فشوبنهور يرى أن في كل إنسان حوضا من الألم لا محيص له عنه، وهو حوض يستحيل أن يظل فارغا كما أنه لا يمكن أن يسع أكثر مما يملؤه. فإذا ما أزيح عن صدورنا عناء جسيم مضن حل مكانه عناء آخر. ولقد كانت مادة هذا العناء موجودة فعلا، ولكن منعها أن تجد سبيلها. إلى الشعور بها إن لم يكن هنالك من القوى ما يتفرع لها... أما الآن فإنها تندفع وتتبوأ مكانها.
إن طبيعة الجهاد تبدو لنا في كل ما تبدو فيه من صور كأنما هي مقصودة ومدبرة بحيث تدعونا إلى العقيدة بان ليس فيها البتة ما هو جدير منا بالجهاد، وما طيبات الحياة كلها إلا عبث، والعالم في كل ما يقصد إليه فاشل، فهو كالعمل الذي لا يغطي مصاريفه.
وإذا كانت طيبات الحياة كلها عبثا فقد أصبح بلوغها كالحسنة التي تقذف بها إلى الفقير فتحفظ حياته اليوم لكي يمتد شقاؤه إلى الغد... إنه ما دام إدراكنا مغمورا بإرادتنا، وما دمنا خاضعين لمزدحم الرغبات بآمالها ومخاوفها التي لا تنقطع... ما دمنا مدفوعين لإرادة هذا الشئ أو ذاك فيستحيل أن نحيا في سعادة كاملة أو في سلام دائم.
وما هي الإرادة التي تقودنا إلى هذا الظلام المخيف الذي يطفئ جميع المصابيح ولا يبقي حتى على البصيص؟ يجيب شوبنهور: هي العنصر الوحيد الدائم الثابت... جميع الأديان تبشر بالجزاء لحسنات الإرادة أو القلب، ولكنها لا تعد نبوع العقل والفهم شيئا.