ولا بركة فيه ولا سداد.
لذلك يضيف المؤلف مفسرا بقوله إن الذهب والفضة إذا أخرجا من معادنهما الأصلية في جوف الأعماق تصبح آنذاك كالزروع المحصورة في الفلاحة والأنعام المذبوحة لمربي المواشي لا يسوع غير جنيها وأكلها وإنفاقها والاستعاضة منها حيث يهيا المعدن بأمر ذي سلطان كما تصنع نقود العملة في السكة بعد سبكها وطبعها دراهم وسواها عينا وورقا لأجل ترديده في الأيدي على حسبة تجارة أو إيتاء في حقوقه (1).
ترويحة 6: ينتقل المؤلف هنا للحديث في موضوع طريف ذي شقين ألا وهو التعريف بالمروءة والفتوة ومعناهما الحقيقي ضمن النظام والعرف الاجتماعيين. وهنا نقول إن المروءة تقتصر فقط في مفهومها على الرجل في نفسه وذويه وحاله فالمرء مبدئيا لا يملك غير نفسه وقنيته وأملاكه لا ينازعه فيها أحد فهي لذلك تدفع به لأن يظهر السعة لدى الآخرين ويخفي الضيق على نفسه ما أمكن فيصدق في ذلك القول: المروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة وهي ما يمكن تأويله بان لا يعمل المرء سرا ما يستحي منه في العلن، وأن يكون في ذلك شعاره هو أن نفس الإنسان أقرب قريب منه وأولى ما تقدم في طلبه إنما هو للخير لها أولا ثم ما هو دان منها وهكذا. أما الفتوة فتتعدى الحدود المرسومة في المروءة وتتخطاها إذ بها يحتمل المرء مغارم الآخرين وسائر المشاق لتأمين إراحة وإسعاد الغير فلا يضن بما أحل الله له وحرمه على سواه ليجود به طبعا، فهو الفتى الذي اشتهر بعدم تمسكه بالمادة وعرف بالحلم والعفو والرزانة والاحتمال صابرا نائلا تعظيم الناس في تواضعه فرقي بذلك إلى أعلى المراتب رغم اعترافه بعدم استحقاقه نائلا نتيجة لذلك خير الثواب.
فهي إذا بشر مقبول ونائل مبذول وعفاف معروف وأذى مكفوف. فالمروءة كل هذا من حسن الوفاء وكرم المحتد.
ويروي المؤلف قصة رجل كان يلبس كل يوم أحسن الثياب ويركب أفره الدواب ويسعى في تلبية حاجات الناس وشيكا فقيل له لتعليل السبب في ذلك فأجاب بأنه قبلا كان قد انغمس في جميع شهوات الحياة وملاذها من سكر وبطر ومنكر ولكن هذه كلها لم تشبع نفسه بل تركته تعيسا، وأما الآن فليس أدعى لنفسه من مسرة ولا أكثر متعة وبهجة من رؤية إنسان أنعم إليه وأسعفه فشكره ممتنا عند الاخوان. من أجل هذا فهو في نشوة روحية دائمة وغبطة لا توصف حتى أن المؤلف يسترسل في توجيه أطيب الثناء في مدح النفس العصامية التي لا تنهمك بمتاع الدنيا وملذاتها وشهواتها فتخسر الآخرة بل ينصرف نحو المنطلق الأفضل بالقناعة وكرم الأخلاق لسعادة الروح في الدنيا والآخرة.
ومن وجهة أخرى يوصي المؤلف بان يكون فضل الإنسان مرهونا باعماله الشخصية وليس بالافتخار بالأجداد وجاه الآباء والأقرباء السالفين وإلا فهو الميت وهم الأحياء كما قال الشاعر:
إذا المرء لم ينهض بنفس إلى العلا * فليس العظام الباليات بمفخر وربما أفرط الفتى فتجاوز لذا ينبه المؤلف من مغبة الافراط في إيثار الغير على النفس ببذلها أنفة من تحمل العار أو دفعا للظلم وحفظا لحق الجوار، أو في سبيل إكرام الضيف والحفاظ على الأمانة كما يروي عن سيرة الشاعر الجاهلي حاتم الطائي الذي اشتهر بشجاعته وسخائه حتى قيل عنه أجود من حاتم توفي سنة 605 م وكعب بن مامة الأيادي الذي يضرب المثل في جوده لأنه في ساعة العطش الشديد سقى صاحبه مما لديه من الماء ومات عطشان فأعطيا كل ما تملك اليد من دون مقابل فالجود بالنفس أقصى غاية الجود.
إذا لا يتمكن المرء من تحقيق الفتوة إلا متى نال هانئ العيش ورغيده واتساع النعمة ليقوى بذلك على مساعدة الآخرين بالكد والاجتهاد ولا ملامة على من لم تساعده الأقدار على الوفاء بالغرض، ما دام قد كرس نفسه لايذاء العدو ونفع الصديق وإشراك غيره في رزقه.
ثم أنه لا يرائي لغرض تافه مذموم بل يقوم بواجبه احتسابا.
ترويحة 7: هنا يقارن البيروني بين العاقل الحكيم الذي يجد لذته في الأمور النفسانية الروحانية والمثل العليا التي يلاحظها بعين البصيرة والاعتبار وبين الجاهل الغبي المنغمس في اللذات الحسية والمنجذب إلى صنوف الزينة بما فيها المجوهرات وزخارف الحياة التي تستهوي الغريزة الحيوانية فترقص أضلاعه لها طربا ولكن ما هذه برأي المؤلف، إلا لذائذ سريعا ما تزول وتعقب بعدها الحسرة والندم وتبدل نضارة الشباب وجماله إلى حطام الانحلال وفناء القوة وذبول القوام. لكن هذه التذاكير لما كانت أعراضا محمولة في أشخاص محدودة الأعمار بالية على تعاود الليل والنهار لم تخلد فهي من عالم الفساد والعناء فأقيم لهم بدلها من الجواهر المخزونة تحت الثرى في الأحجار المنعدة وفي المكنونة المصونة في أعماق البحار المسحورة ما كان أبقى على قرون تمضي وأحقاب تمر وتنقضي وكانت منة عليهم، من خالق الكون الذي هو عالم بما لا نعلمه وقد أودع وجعل هذه الكنوز جاهزة في حينها من صنوف الأحجار الكريمة مثل اللؤلؤ والمرجان والياقوت والزبرجد والماس وما إليها (2).
ولولا أهمية الزينة في عداد المجوهرات والأعلاق النفيسة لما انفصلت مبدئيا عن الذهب والفضة فان سبيلها كلها في عدم الفناء وعند الضرورات سبيلهما إذ برأي المؤلف لا منفعة مباشرة تجنى منها في قضاء الحاجات الضرورية المنشودة لذا وإن كانت مختلفة عن نفيس المعادن في تثمين الحوائج ومستلزمات العيش، فإنها كذلك مثمنة بهما وربما كانت على وجه التعويض مزيحة العلل وهي جواهر جسمانية يعمم بهذا على الياقوت والمرجان واللؤلؤ والزبرجد وغيرها من الأحجار الكريمة ونفاستها بما يحس الحس منها فحاسة البصر ترى ألوانها الرائعة وجمالها البديع وتنسيقها وانعكاس الضوء عليها فيمدح بحسب ذلك ما دامت مستبدة به لأنه ما دامت أهواء الناظر مغرمة ومنجذبة نحو المظاهر الجسدية الخلابة والمغرية فإذا قورنت بالجواهر النفسانية انكشفت حقيقتها