تصف بدقة المغالاة في تزيين القصور وإظهار الأبهة والجاه عند الملوك ذوي لأمجاد إلى حد فاق الحسبان (1).
وكعالم اجتماعي واقتصادي وكمؤرخ عارف بالأحداث والأزمان، يعود البيروني مرة أخرى ليوضح بثاقب بصره اهتمام الناس بالأحجار والأعلاق النفيسة وأثرها في كسب الوجاهة وتأييد السلطان مع العوامل السلوكية والاجتماعية وأسبابها المنوه إليها في هذا الباب فاسمعه مثلا موصيا وناصحا:
كل ذلك علامات لعلو الهمة وانبساط اليد بالقدرة. ثم تتزينوا بصنوف الزينة المثمنة لتحلو في القلوب وجلالة الأموال في العيون فتتوجه إليهم الأطماع وتناط بهم الآمال، والأحلام مشيرا هنا إلى الدور الذي تلعبه الجواهر في التأثير بآراء الناس وطرقهم المنهجية. وإن الأمر لا يقف عند هذا الحد في طلب الأمجاد والسلطان بل يتعداها إلى المخابرات الجاسوسية وحيل السياسية وأحابيلها إذ يضيف قائلا: واحتالوا بحيل تفاضلت في البدعة والحسن والغرابة للغوص على سرائر الخاص من البطانة وأفعال العام من الرعية ومقابلتها بواجبها وفي إسراع ذلك على تنازح الديار بالفتوح المتناقلة والبرد المرتبة والسفن المطيرة والحمامات الهادية الطاوية للمسافات حاملة للأوامر والأمثلة في المدد اليسيرة حتى خيفوا في السر والعلن واجتنبت خيانتهم فيها وتوقف على ذلك من أخبار دهاة الملوك وحبابرتهم، وفي هذا ذكر لاستخدام الحمام الزاجل من نقل البريد المستعجل آنذاك بين بلد وآخر وغيرها من وسائل التنقلات والرحلات في العالم الاسلامي قاطبة.
ترويحة 12: ومما سبق الإشارة إليه من تأكيد أهمية الغنى المادية بالذهب أو الفضة والجواهر وأثرها في المجتمع يستنتج المؤلف مدى القوة الخفية للمال في تسيير سياسة الملوك وسلطان الرؤساء كما يرى الدور الهام الذي يلعبه في تأييد الحكومات وتنفيذ مآربها مع تبرير مثل هذه التصرفات حيث يضيف:
الملوك أحوج الناس إلى جمع الأموال لأنهم بها يملكون الأزمة ويسيرون بمكانها الأعنة. وقد أوضح السبب الذي من أجله مثلا كان الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي يجمع الأموال ويخزنها حتى وصمه الناس بالبخل وهو براء من ذلك لعدم إدراكهم لما كان يهدف من هذه النقود المخزونة وما يعمل من أجلها وقد شرح أمره لحاجبه مرة مفسرا كيف أنه بالمال يستطيع السلطان التحكم بمقدرات الناس لأنهم جميعا بحاجة إليه ويتشوقون لاقتنائه فمن معه المال معه السلطان وله اليد الطولى في الحكم. ثم يقول المؤلف في الأمير يمين الدولة محمود الغزنوي 389 421 ه 999 1030 م إنه ما كان يفرع من فريسة قصدها وظفر بها إلا ويجيل بصره بعدها لأخرى يزحف إليها ويحوزها، حتى لا يكون مجال للتوقف أو التغيير ثم إنه إذ كان قد وكل أمره للمنجمين سنة وهو عائد منصرفا من مدينة خوارزم حيث أخبروه بامتداد حكمه لما ينيف على عشرة سنين أنه عندها أجاب: إن قلاعي مشحونة من الأموال بما لو قسم على أيام تلك الأعوام لحاجتها بما لا يعجزه إنفاق مرتب أو مسرف فيه.
وعند سماع ذلك حملت البيروني النشوة، وكانت لا تزال بينهما بعض جفوة لقسوة السلطان وتفاخره وشدة بطشه، على الإجابة قائلا: اشكر ربك وأسأله واستحفظه رأس المال وهو الدولة والاقبال فما اجتمعت تلك الذخائر إلا بهما ولن تقاوم بأسرها خرج يوم واحد غير منتظم بزوالها، فامسك الأمير لأنه رأى في نصيحة البيروني بالاهتمام في رعيته والإنفاق على مصالحهم وتوفير السعادة لهم والمساواة بينهم لما فيه بقاء الملك يكون ذلك أبقى مأثرة وأخلد ثروة (2). وتستمر علاقة البيروني بأمراء غزنة بعد وفاة محمود فيخدم أيضا الأمير مسعود 421 433 ه 1030 1041 م ابنه الأكبر ويغدق عليه النصح فلم يعتبر حتى مات شهيدا وتبذرت أمواله الدثرة، المكتسبة منها والموروثة عن أبيه في يوم واحدا (3). وقد تلاشت كما يتلاشى الدخان في مهب الريح وذهبت هباء منثورا، ولم يكشف عن غادر به مقرا ولم يظهر في كسير جبرا، لأن قاتله لم يعرف وكان نصيبه الهلاك وبئس المصير لكثرة غروره وإثمه.
ترويحة 13: يعطينا البيروني في هذه الترويحة خلاصة فلسفته في الاقتصاد والحياة الاجتماعية ويركز حديثه مرة أخرى على طبقة الصعالكة وطبقة الحكام وهما في طرفي النقيض والقاسم المشترك بينهما اجتماعهما على جمع المال المستخلص من باطن الأرض بسبب أحوالهم الخاصة وحاجاتهم الملحة إليه فيقول، الدفائن الباقية تحت الثرى ضائعة في بطن الأرض وهي تكون في الأغلب الطبقتين من الناس شديدتي التباين متباعدتين في الطرفيين الأقصيين وهما أهل السلطنة وأهل المسكنة نصفهما على النحو التالي:
أولا المساكين أو الصعالكة، فإنهم تعودوا الاستماحة والتسول واعتمدوها في تحصيل القوت علما منهم بأنها هي رأس المال لا ينقص منه شئ وخاصة مع الالحاف في السؤال والالحاح في الطلب فالشحاذ لا يضع رأس مال غير الشحذة والاستعطاء وكلام التوسل لاستجداء المحسنين فمهما حصل في يومه فهو مربحة لذلك اليوم. فإذا استغنوا بها عن شراء مطعم أو مشرب لأنهم يحصلون على هذه في الغالب بطريقة الاستجداء أيضا أخذوا في جمع الفلوس والحبات والقراريط ذودا إلى ذود يصرفون الفلوس بالدراهم والدراهم بالدنانير وليس لهم أمين غير الأرض لأنها تؤدي ما تستودع وبأمانتها، جرى المثل فقيل آمن من الأرض فهذا كان بنك الاستيداع لهم آنذاك. ثم يموت أكثرهم إما فجأة من خشونة التدبير وإفراط التقتير والسكتة القلبية وإما من سوء حال لا ييأس فيه مع الحرص من الاقبال والابلال ولا تسمح نفسه فيما شقي في جمعه أن يكون لغيره حتى يتفوه بالايصاء به فيبقى مدفونا في الأعماق قل أو كثر وبذلك مع الأسف عاشوا آنذاك أخساء وماتوا غير ما سوف عليهم ولا على مالهم الرخيص.