ثانيا: فان الملوك فلكثرة نوائبهم يعدون الذخائر للعدد ويحصنون ويكنزون الأموال في القلاع والمعاقل وأن يكون حمل ذلك إليها مستورا لتوسط النقلة والحفظة بينهم وبينها فيحتاجون معها إلى خبايا مخابئ ومستودعات لا يطلع عليها غيرهم فمنهم من لا يراقب الله تعالى في الاتيان على ناقليها إلى المدافن فيتخلص منهم، ومنهم من يحتاط في ذلك ويحتال بايداع الفعلة ضمن صناديق فارغة ويتولى سوق البغال معهم إلى الموضع فإذا أخرج القوم بالليل من تلك الصناديق لم يعرفوا أثرهم من العالم وإذا فرغوا من الدفن أعيدوا إليها وردوا فحصل المرام وبعد عنه الآثام ولهذا شريطة هي أن لا تحمل منهم نفرا مرتين وقد أهملها بعضهم واحتاط لها بعضهم الآخر إذ قد جعل أحدهم في أسفل الصندوق ثقبة وأعد مع نفسه كيسا من أرز أخذ ينثرها قليلا قليلا واقتفاها بالغد ففازوا بالمذخور ولم يقف صاحبه على الحال إلا بعد عشرين سنة لما احتاج إليها ولم يجد في المدافن غير حساب بهلول (1).
ثم أخذ بعدها يتابع المؤلف تحليله لمثل هذه الحالات والأحداث السياسية والاجتماعية والتي معها طالما تتعرض مثل هذه المدخرات للدفن في باطن الأرض مرة أخرى كما كانت في طي النسيان فلا تكتشف إلا اتفاقا أو نتيجة طوفانات وسيول عارمة تكشف عنها وتدل عليها. فكم من غني مدخر للأموال توفي تاركا من بعده كنوزه دون أن يعرف بوجودها أو مكانها أحد غيره فتفقد، أو ملك يخزنها لحين الحاجة فيهرب أمام عدو مهاجم ويتركها خلفه مدفونة في الأرض وليس من يجمع أو يحصي عليه ما أودع (2).
ترويحة 14: ويستمر البيروني في توضيح نظريته في الأمة وسياسة الاقتصاد بين الناس في المعاملات واستحسان استعمال النقود الورقية أو المعدنية ومن بينها الجواهر فيقول: لما احتاج الملوك في حركاتهم وانتقالاتهم الاختيارية والاضطرارية إلى أصحاب أموال تصحبهم من أجلها خدمهم وينزاح بهم العلل في إخراجاتهم وعوارضهم وكان الورق أخف محملا من المثمن به في المصالح كالفلوس والدراهم والدنانير مثلا نظروا إلى الفاضل عليه في ذلك فوجدوه العين خيار الشئ ونفيسه وما ضرب نقدا من الدنانير فان المثمن من المطالب الأخرى يكون عشرة أضعاف ما يحصل بالورق على الأصل القديم المعين في الديات والزكوات وإن تغير بعد ذلك لعزازة الوجود ونزارته في بعض الأحايين دون بعض أو لفساد النقود وصدئها وإما في أصل الجبلة في كل عالم. ثم إن البيروني يعمل مقارنة بين ما سبق ذكره من أهمية العملة الورقية وبين الجواهر والأعلاق النفيسة وما لها من القيم وإمكانية وجودها ومحتوياتها وأفضلية استعمالها بالنسبة لأوزانها وأثمانها. بعد ذلك يأخذ بيد القار بصورة غير مباشرة إلى صلب موضوع بحثه في أصل الجواهر الكريمة ونفعها وعلو قدرها ماديا ومعنويا والنواحي النفسية والاجتماعية التي أدت إلى انتشارها وأهمية تداولها وسهولته وخفته ثم يصرح قائلا: فان الذهب أعز وجودا من الفضة والفضة أقل وجودا من النحاس ويناسبها صغر الحجم وعظمة ورجحان الوزن ونقصانه. وهو يذكر أحد المناجم الذي يعطي من بين معادنه، هذه الأجناس الثلاثة بتفاضل مقارب لهذه النسبة وذلك أن عطية الوقر فيه من الذهب عشرة دراهم ومن الفضة وزن خمسون إلى خمسة أضعاف ومن النحاس خمسة عشر منا أكثر من مائة ضعف فلهذا آثروا العين على الورق في الاصطحاب مما خف عليهم حمله وحين لم يأمنوا الواقعات النائبة سجالا وقد عرف أن النجاء فيها بالقلة والخفة مالوا إلى الجواهر إذ كان حجمها عند حجم الذهب أقل قدرا من حجم الذهب عند الفضة وحجم الفضة عند ما يشتري بها من المصالح فاصطحبوها معهم وقرنوها بأنفسهم، وإن هذه الجواهر نفسها التي يعتز ويتباهى باقتنائها الملوك والعظماء تكون وبالا عليهم إن شاؤوا التنكر والاختفاء عن عيون المراقبين وفي يد العامة تصبح سببا في اتهامهم بسرقتها أو بالشك في أمانتهم إذ ليس من المنتظر أن أمثالهم يملكون مثل هذه الجواهر النفيسة الثمن فيصرح قائلا: ولكنها عند إلجاء تلك الحوادث إلى التنكر ربما صارت ساعية فتكتشف بسرعة دالة عليهم كما نم بفتية الكهف عتق السكة في الورق حتى اتجهت عليهم التهمة بوجود ذخيرة عتيقة، ثم يضيف المؤلف قائلا: إن الجواهر خاصة من آلات الملوك وهذا مدار حديثه فإذا كانت عند غيرهم ممن لا يليق بحاله تلونت الظنون فيه بأنها إما مسروقة وهذا منطق اجتماعي وقانوني متبع حتى في عصرنا هذا والسارق حينئذ مطلوب، وإما ممتلكة حقا لمتنكر من الكبار ومثله مرصود، وفي كليهما خسارة.
ثم يعبر البيروني عن التطورات الاجتماعية والأخلاقية والعمرانية المترتبة على جمع الكنوز الأرضية كالجواهر فيقول: وقد كان فضلاء الملوك يجمعون الأموال في بيوتها وفي المساجد ويجلبونها من أجمل وجوهها ثم يكنزونها بالتفرقة في أيدي حماة الحريم ثم الدافعين مضار العدو عن الحوذة إذ كانت أول فكرتهم آخر عملهم وهم كالخلفاء الراشدين ومن يشبه بهم مقتديا مثل الخليفة عمر بن عبد العزيز والكثير من المروانية والقليل من العباسية إذ كانوا يرون ما قلدوه عبئا ثقيلا قد حملوه ويحتسبونه محنة ابتلوا بها فكانوا يجتهدون في نقص إصرها ويتحرجون عن التردي في وزرها، فهؤلاء الخلفاء الصالحون إذا لمسوا أهمية المسؤولية الواقعة على عواتقهم تجاه رعاياهم لم يستبدلوها بطلب القوة في المال والجواهر والممتلكات بل باجراء العدل والمساواة والحفاظ على مصالح الشعب ورفاهيته بالرفق وحسم الظلم وعون البائس.
ويروي هنا المؤلف خبرا تاريخيا مفاده أن قاطني إحدى النواحي في بلاد المغرب كانت الامارة تدور فيما بين أعيانها وشآتهم على نوب يقوم بها من يأتيه دوره لمدة ثلاثة أشهر ثم ينعزل عنها بنفسه عند انقضاء أمدها فيقدم الهبات والصدقات شكرا على عمل قام به وانتهى حتى تتاح له فرصة العودة إلى أهله مسرورا كأنما قد حل من عقال حتى ينصرف لشؤونه ويزاول أعماله الخاصة بينما يأخذ وظيفته آخر لثلاثة أشهر وهكذا.
وفي هذا نرى صورة رائعة لتطبيق مبدأ العدالة في الحكم مع النزاهة والتضحية في خدمة البلد والتفاني في المبادىء الإنسانية والديمقراطية الحقيقية فأين هذا في عصرنا حيث نجد التكالب على الكراسي والحرص على حفظ الألقاب والمراكز. ويفسر المؤلف هذا التصرف على الوجه التالي: وذلك لأن حقيقة الامارة والرياسة هي هجر الراحة لراحة المسوسين في إنصاف مظلومهم من ظالمهم وإتعاب البدن في الذود عنهم وحمايتهم في أهليهم وأموالهم ودمائهم