اقترع فيها عذرته وأظهر ذروته كاختراع البدائع في كل ما وصلت يده من سائر الفنون فهو إمام المجتهدين وأسوة الباقين (1). ثم مقالة لنصر بن يعقوب الدينوري الكاتب عملها بالفارسية لمن لم يهتد لغيرها وهو تابع للكندي في أكثرها وسأجتهد في أن لا يشذ عني شئ مما في مقالتيهما مع مسموع لي من غيرهما. فالبيروني إذا يشير إلى أنه استفاد كثيرا من كتاب الكندي المذكور أعلاه أولا، وقليلا من مقالة الدينوري بالإضافة إلى ما كان قد سمعه وخبره البيروني نفسه من متعاطي مهنة العمل والاحتراف والتجارة في الجواهر وأشباهها مع أنه يشك في ثقتهم وينتقد ساخرا من نزاهتهم وصدق نيتهم فيما يعملون ويقولون، وإن كانت طبقة الجوهريين في أخبارهم المتداولة بينهم غير بعيدة عن طبقة القناص والبازياريين صيادي الجوارح وأنواع الطير في أكاذيبهم وكبائرهم التي لو انفطرت السماوات والأرض لشئ غير أمر الله لكانته. ولنا ببطليموس أسوة في تألمه من تخريصات التجار الذين لم يكن يجد بدا من الاستماع منهم لتصحيح أطوال البلاد وعروضها من أخبارهم بالمسافات والعلامات.
لذلك لا بد أن البيروني قد اعتمد في الكثير من المعلومات التي قدمها في كتابه حول الجواهر على مشاهداته الشخصية وتجاربه واختباراته وتقييم الأمور التي سمعها ونقلها حسب ما رآه فتكون أكثر قبولا وواقعية ونقدر أن نتحقق صدق هذا من الأفكار الأصلية الهامة النيرة والصبر والنظريات التي احتماها كتابه هذا (2).
فصل 1: يقدم لنا هنا البيروني بحثا ذا أهمية قصوى في تاريخ طريقة نمو النبات والحيوان وتطور هذه الطريقة وما تتميز به كل من هاتين المملكتين الطبيعيتين وكيف بذلك أزاح لنا الله الغطاء لمعرفة علل جميع المخلوقات بكنه حاجاتها وبقدر، لا إسراف فيه ولا تقتير، وجعل النمو الذي هو زيادة في جميع أقطار القابلي له طارئة عليه ومستحيلة إليه سببا هو الاغتذاء وصير النبات مكتفيا بالقليل من الغذاء ماسكا له، لا ينهضم بسرعة، فاقتنع وثبت مكانه يأتيه رزقه من كل مكان فيجذبه بعروق دقاق في دقة الماء ساريا إلى جرثومته. فالغذاء يأتي إلى النبات وهو في مكانه ثابت فتجتذبه الجذور الممتدة في عمق الأرض وتهضمه ثم كيفية تغذي النبات بمرور النسغ ببطء من الجذور صاعدا إلى فوق من خلال الجذع والأغصان فإلى أجزائه العالية مقدما نظرية طريفة هامة إذ فيها يبين بوضوح فيقول: وترفع سخونه الجو بالشمس من أغصانه رطوباته الأمر الذي من أجله يحدث فراع والذي لا بد من ملئه فينجذب ما حصل من الجذور في الأسافل إلى أعالي أفنانه وينمو به.
وغاية هذا التطور والنمو ليبلغ ذروته لاستمرار الجنس ثم يجري إلى ما خلق له بالايراق والإزهار والاثمار (3).
وبعد ذلك يشير البيروني إلى الفارق الواقع بين طريقة نمو النباتات وبين كيفية تغذي الحيوان وسرعة الانهضام وأهميته، وضرورة تنقل الحيوان بآلات الحركة لطلبه واحتياجه إلى القضم والخضم وللتقوت من هنا وهناك. من أجل ذلك أعطي الحيوان بالطبيعة موهبة الحواس الخمسة ليميز بها بين ما يضر وما ينفع وبين الممكن وغير الممكن معبرا عنها في النقاط التالية:
1 من بصر يدرك به المرغوب فيه من بعيد فيسرع إلى اقتنائه والمرهوب حتى يهرب منه ويستعد لاجتنابه وإتقائه.
2 ومن سمع يدرك به الأصوات من حيث لا يدركها البصر فيتأهب لها.
3 ومن شم يدل عليها من خواص فيها فيقتفيها أو يتقيها.
4 ومن ذوق يظهر له به الموافق من الغذاء وغير الموافق منه فينجو بذلك مما هو سام ويبتعد عما هو تافه أو غير مستحب.
5 وأخيرا من لمس يميز به بين الحار والبارد والرطب واليابس والصلب واللدن والخشن واللين فينتظم بها في الدنيا معاشه ويدوم انتعاشه، وهي ميزة للحيوان فوق النبات، أحسن المؤلف توضيحها وتبيانها بدقة وحذاقة وصدق (5).
ترويحة 1: يتابع البيروني في الترويحة الأولى حديثه عن الحواس التي تنفعل بمحسوساتها أعضاء البدن الحيواني وأفعاله وقواه فيعطينا أفكارا أخرى هامة وأصيلة بالاستمرار في تعريف الحواس وكيفية أدائها أفعالها بالنسبة لعلمي التشريح ووظائف الأعضاء فيضيف قائلا:
فالبصر محسوسه النور الحامل في الهواء ألوان الأجسام خاصة وإن حمل أيضا غيرها من الأشكال والهيئات حتى يعرف بها كمية المعدودات والمرئيات