2 أو كانت تعابير روح ثائرة على مجتمع مادي يعتوره الفساد والظلم والتكالب والأنانية وانتقادا ساخرا لأنظمة بالية فيزيح بقلمه الغطاء عن عوراتها ويكشف أستار محتوياتها ومكنوناتها سافرة أمام نور الحقيقة وجمال الفضيلة ومكارم الأخلاق ومجد الخلود (1).
3 أو أنه يقدم فيها نظاما اجتماعيا شاملا وصالحا يتماشى مع روح عصر سداته الايمان والمروءة ولحمته الدين الصحيح الحنيف كاشفا فيه عن أهداف وآراء اقتصادية وأخلاقية بناءة شافية لأسقامه الكثيرة؟.
4 أو هل هي تصدير مبدئي وتقديم مقصود وتمهيد متسلسل ليرينا علاقة هذه الأحجار الكريمة والفلزات النفيسة والأعلاق المفضلة التي هي موضوع الكتاب نفسه بما لها من صلات وتأثيرات وملابسات في مجتمع مشعب الأهداف متباين في مآربه ومشاربه معقد في أطماعه وأحلامه ومعاملاته، كثيرة تياراته الفكرية والمادية؟ أو هل هذه هي الأسئلة الأربعة مجتمعة مترابطة؟ وأن هناك خيطا غير منظور يجمع هذه الدرر المتناثرة في قلادة أو عقد متصل الحلقات جميل الرونق نادر الثمن؟.
في مقدمة الجماهر هنا الأول وهلة نجد أمامنا أفكارا جديدة نقادة في الفقه والتشريع والعلوم العامة والتاريخ الطبيعي والأدب والاجتماع والتجارة والعمران متبعثرة حينا وحينا في اتساق وتخطيط مرسوم ربما يراد الوصول به إلى غاية الكتاب نفسه ومادته أو إنها طفرة مقصودة تعبر عن تبرم المؤلف من المجتمع البشري كلية أو تأسفه على أحلام وأمان رفيعة لم تتحقق فانطلقت هنا معبرة عن إرادتها بحرية رفيقة وبساطة جريئة.
للإجابة بوضوح ودقة لا بد من تقييم هذه الفصول وتعيين اتجاهاتها واحدا واحدا مع تحليل مقتضب لمحتوياتها ومقاصدها وأسبابها القريبة والبعيدة ولا بد لنا من القول قبل البدء في التعليق والشرح بان هذه المقدمة بجملتها تقدم لنا حقا قطعة أدبية رائعة ودرسا اجتماعيا قيما ونبذة علمية نادرة وشرحا موضوعيا بديعا لأحوال الدين والدنيا للمجتمع الاسلامي في العصر الوسيط وكل ذلك في نظر ثاقب رصين مؤمن بالحياة ويهزأ بالاخفاق والانهزامية والاذعان.
الافتتاحية:
يهمل البيروني في افتتاحية كتاب الجماهر هذا ذكر اسم الكتاب وعنوانه من ناحية أو مقصده وأهدافه وأغراضه من ناحية أخرى كما نجد في كثير غيره من تأليف هذا العصر الهامة في شتى العلوم (3)، فلعل المؤلف اكتفى بذكر تصدير مقتضب معبر بكلتا الحالتين عن فاتحة قصيرة فيها يحمد رب العالمين الذي لما توحد بالأزل والأبد وتفرد بالدوام والسرمد جعل البقاء في الدنيا علة الفناء والسلامة والصحة داعية الآفات والأدواء، كل هذا في لهجة فلسفية يوضح بان خوف الإنسان من الفناء يدفعه للتمسك أكثر بالحياة الدنيا وتلهفه على طلب السلامة مهما كلف الأمر مع تأييد بعزم وثبات أمر محاربة الأسقام والآلام والطريق لاستعادة العافية ولكن هذا لا يكون إلا بذاك وأما نوال السعادة فهو رهين القبول والرضى بحقيقة هذا التضاد في الحالتين.
ويشير البيروني إلى أهمية قبول قضاء الله وقدره الذي قسم الأرزاق ووفق الآجال وصير سببها الإشاحة في الأعمال، مؤكدا ضرورة الجد والاجتهاد لنيل المراد، ثم يتحول المؤلف للإشارة إلى ظاهرة طبيعة هامة من عمل الخالق الذي سخر الشمس والقمر دائبين على رفع الماء إلى السحاب حتى إذا أقلت الثقال ساقتها الرياح إلى ميت التراب وأنزلت إلى الأرض ماء مباركا فأخرجت به خيرا متداركا متاعا للأنام والأنعام إلى أن يعود بحريته إلى البحار والاستقرار موضحا بذلك ما للقمر والشمس من تأثير في تبخر المياه وتكون السحب وتراكمها في الجو ثم نزول الأمطار واستقبالها مما يؤول إلى ارتواء الأرض المتلهفة العطشى وإعطائها الخصب والحياة فتزهر البرية وتبتهج وتسقى الأرض وتكتسي المراعي فيفرح قلب الإنسان بجود النبات والحيوان فيعود النمو والازدهار للبرية بأسرها ثم تعود زيادة الماء مرة أخرى إلى البحار والأنهار من حيث جاءت أولا وهلم دواليك. ويعلم الله ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وفي ذلك إشارة إلى ما في باطن الأرض من خير وكنوز من أحجار كريمة ومعادن تخرج بالكشف والحرث والتعدين والزرع وما تهبه السماء من ريح وشمس ومطر ومن جاذبية وإشعاع ودفء لازدهار المسكونة وظهورها في حالة جديدة قشيبة فنرى أنه حتى في هذه الافتتاحية المقتضبة حقا إشارة واضحة إلى الجواهر والفلزات المخزونة والمدخرة في باطن الأرض رهينة الكشف لنفع الإنسان (4).
ويستغرب القارئ أن يرى مصادر هذا الكتاب قليلة جدا ومحصورة لأن المؤلف يذكر اسم كاتبين فقط نقل عنهما إذ يقول: ولم يقع إلي من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه وقد