الجشع البشري وتكالب الناس على المادية لتعلقهم بهدبها فيقول، لما سهل الله على الناس تكاليف الحياة وتصاريف المعاش بالصفراء والبيضاء يعني الذهب والفضة انطوت الأفئدة على حبهما ومالت القلوب إليهما كميلهما في الأيدي من يد واحدة إلى أخرى واشتداد الحرص والشح على ادخارهما والطمع والاستكثار منهما وجل محلهما من الشرف والأبهة وضعا لا طبعا واصطلاحا فيما بين الناس لا شرعا بل اتفاقا لأنهما ما هما إلا حجران لا يشبعان بذاتهما من جوع ولا يرويان من صدى ولا يدفعان بأسا ولا يقيان من أذى، وما أصدق هذا منذ زمن المؤلف وحتى وقتنا الحاضر أو أكثر.
ويتابع البيروني المنطق ذاته فيقول: وكل ما لم ينتفع به من غذاء يقيم الشخص ويبقي النوع، ومن ملبوس يدفع باس البائس ويقي أذى الحر والبرد ومن كن مسكن يعين على ذلك ويقبض يد الشر فليس بمحمود طبعا.
فالبيروني يؤكد الناحية العملية في المجتمع البشري فيرى أن الذهب والفضة بحد ذاتهما ليس فيهما غنى في قضاء حاجة من ماكل أو ملبس أو مأوى وإنما هما ممدوحان بالعرض وضعا إذ بهما يمكن الحصول على سد حاجات الناس وتامين أعوازهم لذلك هم سموا المال خيرا وكذا من يجود بالدراهم فإنه جائد بجميع الخير لأنه وإن لم يكن ذلك في طبعه فإنما يكون في ضمنه لاحتوائه على المناهج والقدرة في نيل المآرب والوصول إلى ميناء السلامة وغبطة العيش (1).
ولاعطاء مثل من الأمثال حول هذا الموضوع ما يرويه المؤلف في قالب قصصي كالآتي:
إن قوما أرست بهم السفينة في جزيرة منعزلة عن الطرق التجارية البحرية الهامة، فخطر على بال أحدهم إذ أراد شراء حاجة عرضت له فلنقل إنها من ماكل أو ملبس وبمقابل ذلك فإنه دفع دينارا على سبيل المثال كثمن جيد لرجل من أهل تلك الجزيرة وما كان من أمر هذا الرجل من سكان تلك الجزيرة أن أخذ هذا الدينار يقلبه ويشمه ويذوقه فلما لم يؤثر منه شيئا في هذه الحواس أثر نفع أو لذة رده إليه إذ لم يستجز دفع ما ينتفع به بما لا نفع فيه في عرفه وعادته. هكذا فان العبرة في هذه المثال أو تلك القصة أن المقايضة الصحيحة هي التي ينتفع منها لكلا الطرفين وأن المعاملة الطبيعة المباشرة بين النظراء هي التي تتم من حيث المبدأ في إبرام الصفقات التجارية المتبادلة والتي تصبح حقيقة وأسسا ومنبعا لنظام المعيشة ولمداولاته بين الناس في الحضارات الإنسانية وبين الشعوب الراقية المتحضرة والتي يمكن الاستفادة منها في النظم والخدمات الإدارية العصرية (2) أما المعاملة الوضعية المحلية فقد جاءت على الأعم حسبما ورد ذكره من الشعوب المتمدنة الماضية والأمم المعاصرة، في أمر ما تسمى بالفلزات وهي كلمة تطلق على جواهر الأرض كلها من معدن وحجارة كريمة وتعريفها وأهميتها واصطلاحاتها واستعمالاتها. وبسبب انتشارها وشيوعها فقد كانت وما زالت تزدان وتزدهي في أعين البشر حتى شغفت بها الأفئدة وصارت متعارفة بين غني أو فقير متداولة بين ذوي الجاه والمتواضعي السمعة ليس من أجل قيمة حقيقية بها ذاتها وإنما بما هو متعارف به مصطلح عليه حتى صارت مرغوبا فيها لدى الجميع ويحلو لهم امتلاكها. وقد أبان القرآن الكريم كيف أنه قد زين للناس صلاح المعيشة بالنساء وقرة العين بالأولاد وقوة القلب وبهجته وميوله باحتكار الأموال وكنز قناطير الذهب والفضة غريزة عزيزة لديهم (3).
إنه حقا من سخرية القدر ليس في عصر البيروني فحسب بل وحتى في زماننا الحاضر الواقعي أن نرى وجود طبقتين من الناس هما الصعالكة ورجال السلطنة شغلهما الشاغل كمأرب رئيسي في الحياة إنما هو تكديس الأموال باي شكل ثم إن ظروفهما الخاصة كما يبدو تقودهما إلى مثل هذا التصرف الشاذ وكل من هاتين الطبقتين قد أساء استعمال ما لديه من الثراء من ذهب وفضة وذلك بكنزهما بدلا من إنفاقهما ليتسنى تداولهما في أيدي الناس ويتحقق من أجل النفع الأعم والأفضل. ويخيل إلي بان كنز الأموال وحبسها هكذا مسالة تدعو للاستهجان وأمر مخالف لقصد الله تعالى الذي من فضل نعمته وحسن مشيئته سمح باكتشافها واستعمالها وإبدال أثمانها لمصالح عباده وخيرهم وقضاء حاجاتهم في المعاملات التجارية المشروعة (4).
وبطريقة فلسفية مفحمة يوضح البيروني كيف أن الله خلق الجواهر والمعادن النفيسة وبحكمته قد خزنها في باطن الأرض أجيالا طويلة وأتاح للناس اكتشافها واستخراجها وإعدادها تسهيلا للمعاملة والمداولة بين جميع الناس وفي كل مرافق الحياة. فامر اكتنازها إذا إنما هو مخالف لإرادة الله ومشيئته في مقدرات الناس وغمط لمنته وإحسانه بردها إلى باطن الأرض إلى مثل حالتها الأولى التي كانت فيها قبلا وهذا أمر يتنافى مع غاياته الفضلى وحسن تدبيره في الكون في هذه النظرية الاقتصادية المبدئية والاجتماعية البناءة والتي هي في غاية الأهمية حتى في عصرنا هذا، حتى أن البيروني يشبه كون خزن الذهب والفضة وحجزها عن التداول مثلا بمفهوم رد الأجنة إلى الأرحام التي فيها تكونت ومنها خرجت ما هي إلا رجعة عقيمة وعود يائس لا نفع منه