وذم منها ما كان يحمد على مثال وصف أبي بكر الخوارزمي: إن رجلا قيل فيه إنه درة من درر الشرف لا من درر الصدف وياقوتة من يواقيت الأحرار لا من يواقيت الأحجار (1).
ترويحة 8: هنا يقابل البيروني بين لذة الروح السامية ولذة الجسد الأرضية مقررا أن اللذة بالحقيقة إنما هي مسالة مرهونة بلزوم ما إزداد الحرص عليه إذا دام اقتناؤه له، وهذه هي حالة النفس الإنسانية التي تستمتع بحيازتها للمعرفة النافعة والتعمق والغوص في المجهول وكشف أسراره وغوامضه إلى أن يغلبها عند طلب الراحة من تعب المساعي ويلهيها عما كانت فيه بسبب العجز عن الاستمتاع، بما يشتهيه من رغبات أو فيما تطلبه من الحكمة والفهم.
وأما اللذات البدنية فإنها على النقيض إذ هي معقبة للآلام وجالبة للأسقام والأحزان تنبذ وتمل إذا دامت وتودي إذا أسيء أو أفرط في استعمالها الأمر الذي يؤدي بها إلى العبودية والشقاء والانحطاط عقليا وروحيا وجسديا مثلها كمثل الطعام الذي يحلو للجائع ثم تقل لذته بمقدار ما يؤخذ منه حتى إذا أكثر المرء منه وأتخم أدى إلى الغثيان والتهوع والقذف. فأطايب الدنيا كلها خبائث ومحاسنها قبائح فهي لا تشبع قلب الإنسان من جوع إنما تغريه فينقاد إليها فتأسره ليعود إلى طلبها مجبورا فاقد الإرادة. والأمر الطريف حقا، وهو من الأهمية بمكان في تاريخ الطب والمعالجات، أن المؤلف يشبه الشخص المسترسل والمستهتر في شهواته الجسدية كمثل المخمور في العقارات المسببة للهلوسة والاعتياد والتي بعد فقدان تأثيراتها يعود مرة أخرى راجعا إليها وبالحاح يطلبها. وفي هذا نجد أيضا دليلا آخرا على تمكن استعمال مثل هذه الأدوية المخدرة وانتشارها وعلائم ومجريات الاعتياد عليها في عصره والذي كان شاهد عيان لأثرها وما تورث متعاطيها من سلب الإرادة للمقاومة والانصياع (2) ولا يغفل المؤلف عن الجزم بان في وجود اللذة الجسدية ونشاطها وطلبها يكون دوام النوع وإبقاء للشخصية البشرية ومميزاتها في تعمير الكون حتى أن بني الإنسان ينمون ويكثرون ويملؤون الأرض ولتكن خشيتهم ورهبتهم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء (3).
ترويحة 9: يشرح البيروني هنا كيف أن للناس أحوالا مختلفة في دنياهم يتقلبون فيها ويتعايشون معها فبعض منها يمرح وبعضها الآخر يذم ويرذل لا سيما ما هو مخالف للخلق القويم والنظافة وكرم النفس فالمحامد المشكورة فقطبها المروءة، وإن مدار النظافة روحا وجسدا هو على الطهارة والنقاء وإنه مغبوط وسعيد حقا لذلك الشخص الذي له صديق مخلص ينفر مما لا يرضاه لصديقه ويحب له ما يريده لنفسه. ثم إن البيروني بالرغم من تقديره للصداقة وحسن العشرة إلا أنه يحذر من كثرة الأصدقاء وبلا حدود والذين يكثرون مع اتساع الحال والغني وما أقلهم حين تشح ذات اليد مع أن في تكاثرهم الرقي إلى مراتب الرياسة والملك فيمن تعلو بهم الهمم ومن يطلبون الخير للجميع لا سيما لمن حولهم تمنيا عند العجز وفعلا لدى القدرة يوم تؤول إليهم الرياسة، وطبيعي أن الجمال في الصورة وحسن الخلق محبوبان مرغوب فيهما ولكن الصور عطايا في الأرحام لا سبيل إلى تغييرها لأحد من الأنام إنما نزاهة النفس والدماثة هي في الأخلاق وحسن السيرة ومالك هواه هو القادر على نقلها من المذام والعار إلى المحامد وأعلى الرتب وما هذا إلا بمقدار ما يعمل المرء على تهذيب نفسه بالحسنى وصالح الأفعال ومعالجة أسقامها بالطب الروحاني للتحلي بالفضائل والتقى والابتعاد عن الغضب والهموم. في هذا المجال أيضا يذكر البيروني بعض الأمور العملية التي بها المرء يستطيع أن يحسن خلقه وإن عجز عن تبديل صورة وجهه مع الإشارة لما هو معروف وبديهي أن الاهتمام إنما هو في المرتبة الأولى بالبشرة والتي هي أول ما يلاقي من جسم الإنسان فينبغي إذا تنظيفها بالماء الطهور وليس ذلك أديبا وحسب العرف والعادة فحسب ولكن دينيا أيضا (4)، حتى أن السنانير الأهلية هي أحسن مثال في عالم الطيور في طلبها وسعيها في مراعاة نظافة جسمها والبيئة التي فيها تعيش على خير منهج.
ثم إن المؤلف يعدد بعض ما أوصى به رجال العرب ونساؤهم بناتهم من وجوب المحافظة على نظافة أجسادهن وبيوتهن طلبا في الابقاء على السعادة الزوجية واعتبارهم بان الماء وحده هو أصل الطيب ورأسه (5).
لذلك بعد الاغتسال بالماء الطهور يوصي المؤلف أولا التزين بالأصبغة والألوان والتي بمعونة الضياء سرعان ما تلفت إليها الأنظار بواسطة حاسة البصر. فمثلا فان تبييض البشرة وتوريدها بالغمر ثم تسويك الأسنان وتنظيفها وتنقية الاشغار وتكحيل العين وصبغ الشعر وتمشيطه وقص ما يحتاج إلى القص ونتف بعضها وتقليم الأظفار وتسويتها كل ذلك لأجل تحسين مظهر الإنسان وتجميل منظره مع النظافة والذوق السليم. يتبع ذلك ذكر الثياب الملاصقة والمحيطة بالبدن لا سيما الماسة للجلد والتي يجب تنظيفها ليبدو لونها الأبيض المحمود زاهيا مصقولا ولامعا للتخلص من الغبار والدخان وما يعلق بها من الشوائب أو ما يعكر صفو لونها. ومن البداهة أن من ينظف ثيابه لا بد أن