إلى الشبكية فالعصب البصري فإلى الدماغ للحصول على الرؤية الكاملة.
وأما السمع فمحسوسه الأصوات، والهواء حاملها إليه، والشم محسوسه الروائح، والهواء يوصل حواملها إلى الخياشيم إذا انفصلت من المشموم كانفصال البخار من الماء باختلاط أجزائه المتبددة في الهواء.
والذوق محسوسه الطعوم والرطوبة تحملها وتوصلها إلى الذائق وتولجها في خلله. فان آلاته من اللسان والحنك واللهوات متى كانت يابسة لم تحس بشئ من الطعوم وهذه الحواس الأربع متفرقة في البدن مختصة بأماكن لها لا تعدوها (1). ونستطيع في عصرنا الحاضر أن نشير لتلك الأماكن المعينة التي هي المراكز الأساسية لهذه الحواس في الدماغ وخلافه.
والبيروني من ثم يتطرق إلى الحاسة الخامسة والأخيرة والتي تتميز عن الأربع السابقة فيقول: وأما خامسها ألا وهي حاسة اللمس فإنها بعكس الأربع الأخرى عمت جميع البدن في أعضائه وفي آلات سائر حواسه ولم تنفرد بها دونها. وأول ما نلاقي من ذلك محسوساته بواسطة الكيفيات التي هي في ظاهر البدن ولهذا كان الجلد بحس اللمس أولى وإليه أسبق ثم ما وراءه أولا فأولا وطبقة طبقة بحسب اللين واللطف إلى أن يبلغ الأغلظ الأكثف من دعائم البدن فيزول به حس اللمس عند العظام. فواضح برأي المؤلف إذا أن حاسة اللمس أقوى ما تكون في سطح الجلد ثم بعد ذلك تضعف تدريجيا اتجاها إلى العمق حتى وصول العظام حيث حاسة اللمس تكاد تكون معدومة (2).
ترويحة 2: ينتقل البيروني هنا للحديث حول تفوق العنصر البشري على سائر المخلوقات لأن الله منحه شيئا آخر بالإضافة إلى الحواس الحيوانية الخمس وهي بما شرف به من قوة العقل الذي تسلط به على المخلوقات وقدر على سياسة الأرض وتعميرها وتفهم أسرار الكون وتدبيره أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون سورة يس 70 72.
ولولا هذا الاحسان الإلهي لما استطاع الإنسان مقاومة الحيوانات وهو بالنسبة لها في القوة الجسمانية أضعف من الكثير منها ولا يملك ما تملكه من آلات الدفاع والنزاع. والبيروني هنا أيضا يقتبس ما جاء في سورة الزخرف: 12 سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. فنعمة العقل والتمييز للتسلط على سائر المخلوقات ما هي إلا إكرام سماوي والتي يأمل المرء من خلالها خير الجزاء بعد المنية. ويضيف المؤلف قوله: إذ الرغائب بالمتاعب ونيل البر بالانفاق من الحبائب إذ لا بد من احتمال قرص النحل حتى يجتنى العسل وليكن العطاء مما يختزنه الإنسان لعمل الخير والاحسان للآخرين أجرا واحتسابا.
ويضيف المؤلف وهنا أيضا حول أهمية ذكر حاستي السمع والبصر حيث جعلتا لهما مراقي من المحسوسات إلى المعقولات. أما البصر فللاعتبار بما يشاهد آثار الحكمة في المخلوقات والاستدلال على عظمة الصانع من المصنوعات ويستشهد بسورة فصلت: 52 سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (3). هذا ما يختص في أمر البصر وأما السمع فليسمع به كلام الله بأوامره ونواهيه ويعتصم فيها بحبله فيصل إلى جواره ويستشهد بقول أعشى بني أبي ربيعة إذ يقول:
كان فؤادي بين جنبي عالم * بما أبصرت عيني وما سمعت أذني فالبيروني إذا يؤكد بان هناك مصدرا أكيدا للحصول على العلم ألا وهو هاتان الحاستان، البصر والسمع ويضيف إليهما الفؤاد وليس الدماغ مشيرا إلى آية من سورة الإسراء: 104 إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا. موضحا بأنه من فضلة القلب يتكلم اللسان مقتبسا قول أبي تمام:
ومما قالت الحكماء طرا * لسان المرء من خدم الفؤاد لأن السمع والبصر حسب رأي البيروني وبأسلوبه البليغ الرفيع يعتبرهما آلتا الرقيب بهما يكتشف المرء نفسه وبيئته ويرى ما هو خفي عنه غير ظاهر له ولا يعرف أبدا حق قدرهما إلا عند فقدهما لكل ما يخصهما في الحياة من متعة وسلوى وجمال وأنس.
أما الحواس الأخرى فإنها برأي المؤلف أليق بالبدن منها بالنفس من مذاق وتحسس واستنشاق ما حولها. وهي أقرب إلى الحيوانية الجسدية منها إلى الإنسانية الفضلى بالرغم من أنها مبدئيا تتطور وترقى وتتهذب من منطلق أوضاع الإنسان الفكرية وأحلامه وتفاعله واستنباطاته حتى تبلغ بهذه المشاعر والأحاسيس إلى أقصى غايتها البشرية النافعة (4).
ترويحة 3: هنا يتكلم البيروني عن الاستئناس كنتيجة إلى التجانس مقتبسا المثل القائل إن الشكل إلى الشكل ينزع والطير مع ألافها تقع أو كالقول الشائع في يومنا هذا إن الطيور على أشكالها تقع. والمؤلف مثلا يشبه كيف أن الأخرس ينجذب ويستأنس بالأخرس نظيره يخاطبه بالإشارات التي يفهمها كل منهما أو بالايماء بالأعضاء مقتبسا سورة الروم: 20 ومن