وإنصاب النفس في إنشاء التدابير، لأنه بذلك يوقف نفسه على خدمة البلد والدفاع عن حياضه وتامين مصالح أفراد الرعية بكل ما أوتي من قوة وحكمة التدبير وحب العدالة وكرم الأخلاق ورفع الضيم وصيانة الكرامة في الأمة (1).
ترويحة 15: هذه آخر التراويح التي تخطها يد المؤلف في هذه المقدمة لكتابه الجماهر في معرفة الجوهر، وهنا نجد مرة أخرى معالجة جذرية لقضايا اقتصادية واجتماعية خاصة بالمعادن المتداولة كالعملة في أيدي الناس ووجوب وقايتها من الغش وحكم الشرع في ذلك فيقول: إنما حرم شرب الماء في أواني الذهب والفضة لما تقدم ذكره من انقطاع النفع العام بها واتجاه قول الشيطان عليه سورة النساء: 118 ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ولنكتة ربما قصدت فيه وهي أن هذه الأواني لا تكون إلا للملوك دون السوقة وللآنام بين الأيام من الضيق والسعة دول تدول وأحوال تحول وتجول فإذا صرف ما حقه أن يبث في الأعوان إلى تلك الأواني اتكالا على كثرة القنية أيام الرخاء من دون أن يهتم بالانفاق على أتباعه ثم دار الزمان وأتى بعده فافتقر، أحوج إلى سكبها وطبعها دراهم ودنانير ففترت النيات بظهور الضيقة وطمع الأعداء بانتشار خبر الضعف والافلاس بين الناس، فهم عبيد الطمع ومانعو الحقوق إذا أمكن، وهو المعنى المظنون به أنه محشو تحت التحريم فلن يخلو السرع من مصلحة عامة أو خاصة دنياوية أو آخرانية. هذه دروس ومواعظ من الماضي البعيد يدرجها المؤلف مع إيضاح وثاقب بصيرة لينقل لقارئيه موعظة في معنى القناعة والفطنة وينصح القارئ من مغبة الشر والانحراف والسير في طريق السلامة من الغاشين والدعار مما يؤدي إلى الخيبة والدمار.
وينهي البيروني مقدمته في فصل أخير يعبر فيه عن محاولته لبحث الجواهر والأعلاق النفيسة المذخورة في الخزائن عند الملوك والنبلاء ويبدي رغبته في دراسة كل جوهر أو معدن في فصل مستقل به متسلسلا من مقالة إلى أخرى ذاكرا أصل الجوهر أو المعدن ومنبته في الأرض وأشكاله وألوانه وأحواله وكثافته النوعية وأوصافه الظاهرة والخفية وإثمانه المعروفة أو المنسوبة وإقبال الورى في طلبها للزينة ولقيمتها المادية أيضا.
هذه هي مساقات ومواد الكتاب في مقالتين: المقالة الأولى في الجواهر:
الياقوت مع أشباهه من الجواهر كاللعل البدخشي والبيجاذي، والألماس، والسنباذج واللؤلؤ، والمرجان، والزمرد وأشباهه، والفيروزج، والعقيق، والجزع، والبلور، والبسد والجمشت، واللازورد، والدهنج، واليشم، والسبج، والبادزهر وحجر التيس الترياق الفارسي أو الباذزهر والموميا، وخرز الحيات، والختق، والكهربا، والمغناطيس، وحجر الخماهن والكرك، والشاذنج، والزجاج، والمينا والقصاع الصينية، والأذرك. والمقالة الثانية في الفلزات: الزئبق، والذهب والفضة والنحاس والحديد، والاسرب، والخارصيني وأشباهه، والطاليقون. فهذا التقسيم يعطينا فكرة عن كيفية نظر البيروني إلى هذه المواد الطبيعية وتمييز الجواهر والأحجار منها بألوانها وصفاتها الطبيعية عن المعادن المستخرجة من المناجم بما في ذلك أنواع الأتربة والطباشير وسواها (2).
استنتاجات ختامية: بعد مراجعة قول البيروني في مقدمة كتاب الجماهر يميل كاتب هذه المقالة إلى ترجيح الاستنتاجات والاقتراحات والتعليقات الآتية:
1 كانت لدى البيروني، بثاقب نظره وعمق اختباره وسعة اطلاعه، نظرات وآراء في الدين والاجتماع والاقتصاد والعمران وجد في هذه المقدمة لها مخرجا لتسجيلها ومعالجتها وشرحها فجاءت سهلة المأخذ ضمن فكرة تأملاته الهادئة العميقة.
2 كانت في نفس البيروني ثورة جدية واعية ضد الانحراف الاجتماعي والمظالم والانخداع بمظاهر الأبهة والتسلط الزائف فأراد محاربتها وكشف خداعها بأسلوبه الواقعي المقنع اللطيف دون إثارة النعرات والضوضاء حوله.
3 كان مدار حديثه من بعيد وحتى من قريب، أن يقود القارئ إلى تركيز نظره وفكره في القيمة الحقيقية والتقليدية للجواهر والأعلاق النفيسة وكان البيروني نفسه يود أن يبعث الطمأنينة والثقة إلى نفس القارئ والآتيان بالقيمة الحقيقية لهذه المنتجات الطبيعية وأنه يعطيها حقا من الاهتمام بلا زيادة ولا نقصان لئلا تغوي المرء بألوانها الزاهية البراقة وما يتبع ذلك من تهالك الناس على اقتناء الذهب والمجوهرات فيهمل أهمية ما يمكن تحقيقه بواسطتها في الصناعة والحيل والمعاملات التجارية بين الناس من خدمة جلى لسهولة تداولها وجمال تكوينها وبديع صنعها سواء أكانت في باطن الأرض أم بعد اكتشافها واستعمالاتها المتباينة.
4 يقدم المؤلف أيضا آراء أصيلة في غاية الأهمية بما يختص بتاريخ الاقتصاد والسياسة والمجتمع الإنساني مشيرا إلى ما للناحية الدينية من الأثر البعيد في إشادة بناء صرح متين من الخلق الحسن والفضائل بالتمسك بأهداب الدين الحنيف باخلاص وإيمان قويم صادق بعيد عن المظاهر الزائفة والرياء الكاذب الذي أصبح كسوس ينخر في جسم الأمة كلها حتى صار التدين ثوبا خارجيا ليس إلا.
5 بأسلوب رائع منهجي صحيح وواقعي يعطي البيروني رصيدا وافرا في الاصطلاحات اللغوية القيمة في العلوم والحيل والفنون والآداب مؤكدا بذلك مرة أخرى غنى لغة القرآن الكريم ومقدرتها على استيعاب العلوم و المعارف كلها في عصره ومسايرة التقدم فيها فأجاد بذلك أيما إجادة مما يجعل هذه المقدمة آية في الابداع والاعجاز وفريدة أدبيا وعلميا من نوعها في الحضارة الإنسانية.
6 كان المؤلف نفسه من ناحية عالما بانتشار طرق الغش والخداع من قبل عدد كبير من جواهربي جواهرجي عصره ومهارتهم في أساليبهم الكاذبة،