ج أفعال تخضع في قيامها لعامل التمييز الذهني عند الإنسان.
وجميع هذه الأفعال إذا قيست من وجهة نظر أخلاقية تخضع لما يسميه الفيلسوف الفارابي بجودة التمييز أو رداءته. ولكن من أين لنا قنية هذه الجودة في التمييز؟ ذلك هو الأصل وهو الغاية في مبحث التنبيه على سبيل السعادة التي قصدها الحكيم.
فنحن لا ننال السعادة بالأفعال الجميلة ما لم تكن تلك الأفعال قاصدة هادفة من جهة، ومتحققة بصناعة معينة من جهة أخرى، بحيث يعود الكائن الناطق يمتلك قدرة على التمييز في أفعاله المختارة طيلة حياته بأسرها. وذلك لأنه في فطرته يمتلك استعدادا لها يستطيع في حال التطبيق الذاتي والتعلم أن يميز بين الصواب والخطأ، وبين الجميل والقبيح، في تعادل تفرضه أحيانا إمكانية أحدهما على الآخر، أو غلبة أحدهما على الآخر.
وعلى الرغم من هذا، فان القوة التي يفطر عليها الإنسان غير مكتسبة، بينما حال التمييز تتصف بالاكتساب. والأخيرة منهما تنقسم إلى صنفين:
أحدهما به يكون التمييز، إما جيدا وإما رديئا... والآخر به تكون الأفعال وعوارض النفس إما جميلة وإما قبيحة. والأخير من الصنفين يدعوه الفيلسوف بالخلق ويحده بأنه الذي تصدر به عن الإنسان الأفعال القبيحة والحسنة على أن تخضع الأفعال ويخضع التمييز للثوابت التي تلزم الإنسان بان تكون أفعاله وتمييزه في كل شئ، كي يمكن عندئذ إدامة فعل الجميل وجودته معا، بحيث تصير لنا قوة الذهن ملكة لا يمكن زوالها باعتبار أن الخلق الجميل وقوة الذهن هما الفضيلة الإنسانية.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية التي قصدها الفيلسوف، ينبغي أن نسلك طريقين لنقف منهما على مقاصد أبي نصر بالذات.
الأول: محاولة أن تصير الأخلاق الجميلة ملكة لنا، بحيث لا يمكن للصواب أن يزول إلا بعسر ومشقة.
الثاني: أن تكون لدينا القدرة على إدراك الصواب إدراكا سليما لا عوج فيه ولا ضلال.
فما هي الوسيلة التي تحقق لنا الوصول إلى المهيع الأول من هذين الطريقين؟
إنها، وقبل كل شئ، وسيلة الاعتياد، والمقصود به تكرير فعل الشئ الواحد مرارا كثيرة زمانا طويلا في أوقات متقاربة من حيث أن الفعل الجميل هو ممكن للانسان بالقوة قبل حصوله، وممكن بالفعل بعد حصوله، فهو إذن بالتعود يتحقق، وبالتطبيق يظهر وينمو.
ولكن ما هي الآلة التي ينبغي أن نستعين بها كي تقودنا إلى الفعل الجميل حقا؟... يؤكد الفيلسوف هنا إنها آلة الوسط الأخلاقي فالأفعال متى كانت متوسطة حصل الخلق الجميل... وما يقوله الفارابي عن الوسط الأخلاقي هو ذاته الذي تبناه من قبل المعلم الأول أرسطوطاليس في كتابه المعروف الأخلاق إلى نيقوماخوس.
فنحن حين نهدف إلى الوقوف على الوسط في الأفعال الخلقية، علينا أولا التعرف على زمان الفعل ومكانه ومن منه الفعل، ومن إليه الفعل، وما منه الفعل، وما به الفعل، وما من أجله وله الفعل، وجعلنا الفعل على مقدا كل واحد من هذه. فحينئذ نكون قد أصبنا الفعل المتوسط. ونظر لاختلاف مستويات الأفعال الخلقية، لذا نجد أن الوسط الأخلاقي يختلف قوة وضعفا، سلبا وإيجابا، حسب أفعاله وغاياتها.
ويحاول الفارابي ها هنا سوق نماذج لأفعال الوسط الأخلاقي، محتذيا بها إلى حد كبير حذو أرسطوطاليس في كتابه المشار إليه سابقا... فمثلا: إن الشجاعة خلق جميل يحصل بتوسط في الاقدام على الأشياء المفزعة والاحجام عنها. والزيادة في الاقدام تكسب التهور، والنقصان في الاقدام يكسب الجبن، وهو خلق قبيح... والسخاء يحدث بتوسط في حفظ التقتير، وهو قبيح. والزيادة في الإنفاق والنقصان في الحفظ يكسب التبذير. ومن ثمة يشير إلى أوساط أفعال أخرى كالعفة والظرف والهزل والمجون والتودد وغيرها، منتهيا إلى أن تحديد هذه الأشياء على الاستقصاء ليس يحتمله هذا الكتاب، وقد أستقصي في موضع آخر لعل الفارابي يعني في هذا الاستقصاء كتابه الذي ألفه شرحا على كتاب أرسطوطاليس الأخلاق إلى نيقوماخوس الذي أشار إليه في مؤلفه: الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطوطاليس.
والميزان الحق في الحكم على الفعل الخلقي هو أن نحصي الأخلاق خلقا خلقا، ونحصي الأفعال الكائنة عن خلق خلق، ومن بعد ذلك ينبغي أن نتأمل وننظر أي خلق نجد أنفسنا عليه بحيث يكون للانسان السوي آلة يسبر بها غور أفعاله، فما وجده منها يتصف بأنه جميل وملذ وغير مؤذ، اعتبره خلقا سليما، والعكس بالعكس. فكان مراقبة النفس لكل فعل تقوم به واختيار الوسط من تلك الأفعال، هي عملية يتميز بها الإنسان في تطبيقاته الخلقية، بموازنة دقيقة بين إفراط وتفريط، أو نقصان وزيادة، وتجنب الوقوع في أحد طرفي المعادلة، لأن الحدين المستقطبين يتصفان معا بالرذيلة. بينا الفضيلة منهما وسط، لا يميل إلى هذه ولا إلى تلك بل هو صراط مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، ينبغي أن لا تزل قدم الإنسان عنه، فيهوي عندئذ في ضلال الغي والفعل السيء الذي يتصف بالقبح والسلب والفدامة!...
وعلى الرغم مما يراه الفارابي في قضية الوسط الأخلاقي وضرورة الأخذ به، فهو في الوقت ذاته لا يخفي عنا صعوبة عملية الكشف عنه، لأن الوقوف على الوسط، كما يقول الفيلسوف، عسير جدا! ولكن الحكيم يبقى مؤكدا أن التعود سبيل لا حب في اقتناص هذا الوسط حيثما كان، سلبا أو إيجابا... وتلك شنشنة تمسك بها المعلم الأول، وحذا حذوه جميع الذين ساروا على الطريق ذاته من أنصار الأخلاق المعيارية ذات الحكم الذي لا يخضع للتغير الوضعي في كل زمان وفي كل مكان!...
وأيا ما كان، فإننا كلما وجدنا أنفسنا مالت إلى جانب عودناها أفعال الجانب الآخر، ولا نزال نفعل ذلك إلى أن نبلغ الوسط أو نقاربه جدا كما يقول الفارابي. ووسيلة الكشف عن ذلك تتحقق على الشكل التالي: بان ننظر إلى سهولة الفعل الكائن عن النقصان، هل يتأتى أم لا، فان كانا يقصد التاتي أو عدمه على السواء من السهولة، أو كانا متقاربين، علمنا أنا قد وقفنا أنفسنا على الوسط. وامتحان سهولتهما هو أن ننظر إلى الفعلين جميعا، فان كنا لا نتأذى بواحد منهما، أو نلتذ بكل واحد منهما، أو نلتذ