آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ومن هنا يستدل على إمكانية ودواعي التقارب بين الناس للتعارف والتآخي من جهة واحدة والسعي في طلب الأمان من الشر والخطر والتفرق والدمار من جهة أخرى حتى يتضاعف الأنس ويزول النفار بين الشعوب ويعتبر المؤلف أن فضيلة الاستئناس هذا إن هي إلا أسباب تدفع بالناس إلى التعاون والتقارب الواحد من الآخر والاجتماع لتأسيس القرى ونشوء المدن والدساكر وتطورها (1).
ترويحة 4: ومع كون الإنسان اجتماعيا بطبعه إلا أن المؤلف هنا يعالج أمور الناس بالنسبة لبنية أبدانهم وجبلتهم الجسمانية وما تتركب منه من أمشاج وأخلاط متضادة وشهوات متعارضة وأمزجة مختلفة فتتباين نتيجة لذلك أخلاقهم وطبائعهم وأهوائهم حتى أن يقهر أحدهم الآخر ويظلمه ويغمط حقه فينتج عن ذلك أن الشخص المظلوم يصبح دائم النزوح لإزالة القهر عنه فينشأ عنده حب الافتراق والابتعاد طالبا للهجرة إلى أوطان أخرى وحتى مع هذا نجده في غربته عرضة للأخطار الخارجية ومداهمة البلايا والمحن أضف إلى ذلك ضعفه وعجزه مما يجعل المرء دوما في حالة القلق وفي حاجة للعون والاسعاف والأمان ومن هنا جاءت رغبته الملحة والأكيدة ينشد حياة الوئام والتمدن والسعي للتجمع في القرى والمدن العامرة ليقرب من أخيه الإنسان ويستقر.
وفي تجمع الناس ضمن المدن نجد أنهم لو تساووا بالاختبار والهمم، حسب رأي المؤلف، لضاعت عليهم منافع كثيرة وأدى تساويهم في نهاية الأمر إلى هلاكهم جميعا. فلا بد إذا من اختلاف المقاصد والإرادات والمواهب والكفاءات وبذلك تتعدد أنواع الحرف والصناعات وتزداد المآرب وتتعقد الخدمات ويصير الإنسان في حاجة لأخيه الإنسان على المستويات والكفاءات أو أن ذلك يؤول به لطلب واستخدام لمقايضة أو مقابل سلعة أو أجرة يتفق عليها ويتقاضاها الواحد من الآخر إما لحاجته الضرورية أو لاستغنائه عنه كان تقدم سكة معينة أو أثمان عامة وعملة تقدر بدل خدمات معينة، فاختاروا لها ما راق منظره ورواؤه وعز وجوده وطال بقاؤه، من أنواع العملات والمسكوكات والمعادن وحتى الجواهر الثمينة التي كثر انتشارها وأزداد وتأيد تداولها بين الناس في المبايعات ولأن استخدامها يصبح سببا لبقائها وندرتها وعظم قيمتها. ومن أجل ذلك نرى أن المؤلف يبحث في فلسفة قيام العملات والسكة بأنواعها وتاريخها وما آل إليه الأمر من انقياد الناس لتعظيمها وتقييمها بالتوحيد والتصغير بالتجزئة والتبديد والتختم بالتنقيش والتصوير مترددا بين صنوف الهيئات والصور مع ثبات هيولاه ومادته من نفيس الجواهر والعملات وما إليها (2).
إن هذه الجواهر المتداولة بين الناس والمخزونة في باطن الأرض وما هو مستور منها عن الأعين إن هي إلا ودائع صالحة أعدها الله تعالى مزودة بالآلات التي بها أزاح علل الخلق ومجريات الكون وتقييم آثارها وقد هدى الإنسان بالعقل المنبه إلى الآيات الكريمة بواسطة الرسل والأنبياء المرشدين إلى صلاح العقبى وقد وكل الأمر في الورى للملوك خلفائهم ليعملوا على نشر العدل وإعلاء الحق لما هو في صالح الناس جميعا ورأفة بهم وإحسانا إليهم ومنفعة لهم قد سبق مخبأ لهم قبل خلقه إياهم جميعا الموزونات في أرحام الأرضين تحت الرواسي الشامخات للانتفاع بها في الاجتلاب والدفاع الصيانة والاعتدال كما جاء في سورة الحجر: 18 والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (3) ويعتقد البيروني أن الترتيب الإلهي قدر بان تكون مصالح الناس ومعاملاتهم التجارية الاقتصادية والخدمات التي يقوم بها أحدهم تجاه الآخر يجب أن تكون على حساب التقييد والمعاملة بالفضة والذهب وتقدير قيمها نقديا ومعنويا وعلى مقتضاه إذ هو أيضا هدى الإنسان لاستخراجها من معادنها التي اختزنت في أعماق الأرض ألوف السنين وقد منح هؤلاء الملوك الخلفاء السلطة والرياسة ووكل لهم السياسة والأمر والنهي لاستخراج هذه المعادن الثمينة وليصنعوا منها العملة والنقود ويحفظوها من تمويه الخونة الخادعين وتزييفهم أولئك الذين يروجون أشباه الفضة والذهب المغايرة لهما في الجودة والنقاء والدقة ويهذبونهما عن الأدناس والغش وذلك بالسبك الأصيل والطبع في السكة المضمونة لاحقاق الحق وإزهاق الباطل وتامين مصالح العباد وللحيلولة دون ترويج ما هو مغشوش مزيف من معدنهما، وهذا وأمثاله هو المحوج لولي الرياسة إلى مراعاة شروط السياسة ليستحقوا اسم الخلافة في الخلق وسمة الظل في الأرض عند التقبل بافعاله سبحانه في التعديل بين الرفيع والوضيع والتسوية بين الشريف والضعيف من خلائقه ووفق الله للخير كل مستوثق به (4).
ترويحة 5: يتابع البيروني في حديثه هنا حول أهمية الذهب والفضة في اقتصاد الشعوب واتجاهاتها السياسية وحياتها الاجتماعية وما يتبع ذلك من أمر