يبدأ أولا بتنظيف بدنه لئلا يدنس وسخ البدن ودرنه هذه الثياب البيضاء النقية التي يتدثر بها، ومن بعد ذلك لا بد له أن يهتم بنظافة البيت الذي يسكنه والمجلس الذي يأوي إليه ليحافظ على نظافة ثيابه وهندامه من الداخل والخارج فيتم بذلك المراد. وطالما عبر الناس في الماضي عن طهارة النفس والقلب معا وشبهوها بنقاء الثوب وبياض الإزار والحبيب وغير هذه الأمثلة والعبر التي تدلنا على الاهتمام بنقاوة الإنسان وبيئته وحفظه جسديا وروحيا ورفع مستواه أخلاقيا واجتماعيا (1).
ثم إن الجواهر تتلو الثياب رتبة من جهة الاهتمام حسب العادة في أكثر البلدان فيتحلى الذكور بالخواتم والتيجان وما رصع من الوشم الوشح والمناطق والقلانس والقفازات والقضبان والأعمدة لهم ولمن مثل بين أيديهم وللإناث ما لهن من المداري والأكاليل والأسورة والخلاخيل والجبيرات والمعاضد والعقود والقلائد. وهناك من هم في طبقة المسرفين المبذرين والمترفين حتى إنهم يتعدون استعمال الحلي والمجوهرات بالامتداد والتطاول إلى تزيين ما هو خارج عن البدن نفسه إلى تزيين الحيطان وسقوف الدور وأبوابها ورواشنها قصد إظهار التفاخر والعظمة الإنسانية مع أن هذا الاقتدار يكون غالبا بالتمويه لا بالتحقيق مع العلم أنه بلا شك يستحب للانسان أن يعني على الدوام بأمر النظافة والكياسة خارجا وداخلا.
ترويحة 10: يتابع المؤلف حديثه مشيدا هنا بأهمية الرياحين في التجمل والصحة العامة وروعة البيئة ولربما ترينا فكرة هذا الانسجام والشغف بجمال الطبيعة بعض تعلق البيروني بها كما قد تبين أيضا في كتابه الصيدنة في الطب، ومع أنه ليس لدينا أي برهان أو حتى حدس قطعي ولكن ربما كان هنا مجال للتكهن بان تسمية المؤلف بأبي الريحان كانت وليدة هذا الاهتمام الذي لاحظه معاصروه فيه وشجعوه عليه فاعطوه هذا اللقب المميز لذلك نسمعه هنا يقول:
إن من أظهر الأدلة على كمال المروءة وقد مر التعريف بها والحديث عنها تكميل النظافة بالأرايح الأرجة التي تتعدى إلى الغير فتلذه وترغبه في الاقتراب إليه والمناسمة معه وتخفي ما في الإنسان من العوار والوصمة. وأن المروءة اجتناب المحرمات والكف عن أذى الناس ومن ثم فهي الاعتصام بأصول الدين الحنيف الذي يوجب العدل والمساواة وقمع الظلم وإعانة المظلوم والبائس ومن ثم على خلاف من قيل فيه إنه يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده وأن من حسن خلقه بتحسين خلقه وهيا مطعمه بالطيب من الحلال وأشرك فيه غيره بالتسوية فهو العاقل والجواد وصاحب الفضل كما أنه يكون قد حافظ على النظافة والكياسة وقد زاد على ذلك باستعمال الطيب الممدوح العطر فقد سر أكيله وآنس جليسه وأكرم نديمه وكف أذاه وبذلك فعل لغيره ما أراد أن يفعله له غيره (2).
ترويحة 11: هنا يصل البيروني الذروة في تقدير القيم الإنسانية الرفيعة وطلب الخير والمساواة للجميع ودفاعه عن الخلافة الاسلامية كما أنه يقترب رويدا رويدا، كما نظن إلى صلب الموضوع، في بحثه عن الجواهر معنى ومبنى في نطاق تاريخي وعلمي ومنطقي فيقول، الناس كلهم بنو أب واحد وأشباه في الصورة لا سيما من ناحية علمي التشريح ووظائف الأعضاء ولا يخلون فيما بينهم عن التنافس والتحاسد الذي في غرائزهم بتضاد أمشاجهم وأمزجتهم وطبائعهم بالإضافة إلى الاشتمال على ما تعين منذ عهد ابني آدم هابيل وقابيل المقدمين قربانين مقبولا من أحدهما مردودا على الآخر، لأنه عصى صوت الله وثار ضد أخيه ومع ذلك صرخ فاجرا ناكرا للجميل وعديم الود: أحارس أنا لأخي ولما لا حتى صار هذا البلاء الموئس منذ فجر تاريخ البشرية وعم هذا الويل المرير. وإن مما يحد من طمع الإنسان وشره هو، خوف آجل من الله أو عاجل من السلطان وما لم يكن السلطان قويا نافذ الأمر صادق الوعد والوعيد لم تتم له سياسة من تحت يده. فكل واحد منهم يرى أنه مثله وأنه أحق بماله ومكانه ولهذا قصر الملك على قبيلة لتنقبض أيدي سائر القبائل عنها ثم على شخص أفضل أشخاصها ثم على نسل له يكون ولي عهده فصار الحكم ملكا لهم.
نرى هنا تحليلا فلسفيا علميا لنزعات النفس البشرية إلى السلطة الحكم، كما يراها المؤلف، بدافع أنانية قهارة مخيفة لذا يجب التحكم بها وضبطها ثم تسييرها في أقنية خاصة مع وجوب الحزم والارتباط العائلي والحق الوراثي لذلك يقول المؤلف شارحا: ثم أضيف إلى ذلك حال معجز بلغ في غاية القوة وهو التأييد السماوي والأمر الإلهي بالنص على نسب لا يتعدى عموده كما كانت عليه الفرس زمن الأكاسرة وكما كان عليه الأمر في الاسلام من قصور الإمامة على قريش ومن وجبت له المودة لهم بالقربى وكما اعتقد أهل التبت في خاقانهم الأول بأنه ابن الشمس الذي نزل من السماء وأهل كابل أيام الجاهلية في برهمكين أول ملوكهم من الأتراك وأنه خلق في غار هناك يسمى بغرة ولعله بغراخان أحد سلاطينهم فخرج منه متقلسيا وأمثال ذلك من أساطير الأمم الصادرة عن حكمة تجمع الناس طوعا على الطواعية وتحسم الأطماع في نيل كل واحد رتبة الملك، مبعثه عنصر تقليدي ديني حسب البلاد وجغرافيتها والتاريخ (3). ثم يشير البيروني إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية هامة موضحا فيها كيف أن الملوك يلجؤون إلى بناء القصور والقلاع وتزيين مجالسهم وإظهار الأبهة والأمجاد لاكساب مركزهم وتزويده بهالات من التعظيم والاكبار في عيون الرعايا والأتباع، فيضيف: وكما يميز الملوك عن غيرهم بهذه الخصال كذلك تمموا التمييز باعلاء الايوانات وتوسيع القصور وترحيب الرحب والميادين ورفع المجالس على السرر، كل ذلك سموا إلى السماء وإشرافا على الخاص والعام من الملأ وإليه ذهب البحتري في قوله:
وليس للبدر إلا ما حبيت به * أن يستنير وأن تعلو منازله ولم تكن للزيادة في القدرة حيلة فجعلوها بالتيجان والقلانس واستطالوا بالأيدي حتى وصفت ببلوغ الركب كما سمى أهل الهند أحد ملوكهم مهاباها أي طويل العضد والفرس بهمن أردشير ريونردشت لأن ريونرد هو أصل نبات الريباس.
وما لم يبلغ الماء في العمق لم ينبت وإن كان رأسه في ذرى الجبال، وهذه