ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص. قيل المراد بهؤلاء اليهود فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادتهم العجل، ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالآية أنهم ازدادوا كفرا واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة، والإسلام يجب ما قبله، ولكن لما كان هذا مستبعدا منهم جدا كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا. قوله (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) إطلاق البشارة على ما هو شر خالص لهم تهكم بهم وقد مر تحقيقه. وقوله (الذين يتخذون الكافرين أولياء) وصف للمنافقين أو منصوب على الذم: أي يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله (من دون المؤمنين) في محل نصب على الحال: أي يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين (أيبتغون عندهم العزة) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة. قوله (فإن العزة لله جميعا) هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله - والله العزة ولرسوله وللمؤمنين - والعزة: الغلبة، يقال عزه يعزه عزا: إذا غلبه (وقد نزل عليكم في الكتاب) الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق، لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله، وقيل إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب " نزل " بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله (فإن العزة لله جميعا). وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشددة على البناء للمجهول. وقوله (أن إذا سمعتم آيات الله) في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل. وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله.
والكتاب: هو القرآن. وقوله (يكفر بها ويستهزأ بها) حالان: أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات. والمراد سماع الكفر والاستهزاء. وقوله (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) أي أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى - وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره - وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك.
وفى هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم،