تغمصوني به ولهذا قال: " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون " أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال هرقل لأبي سفيان هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان فقلت لا وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق " والفضل ما شهدت به الأعداء " فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة:
بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة والصحيح المشهور الأول.
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون (17) يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما " ممن افترى على الله كذبا " وتقول على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإنه من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي قال عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب قال فكان أول ما سمعته يقول " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلون الجنة بسلام " ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال " الله " قال ومن نصب هذه الجبال؟ قال " الله " قال ومن سطح هذه الأرض؟ قال " الله " قال: فبالذي رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال " اللهم نعم " ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: صدقت والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه وقال حسان بن ثابت:
لو لم تكن فيه آيات مبينة * كانت بديهته تأتيك بالخبر وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة وكم من فرق بين قوله تعالى " الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم " إلى آخرها وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه: يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله: لقد أنعم الله على الحبلى إذ أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا. وقوله خلده الله في نار جهنم وقد فعل: الفيل وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل وقوله أبعده الله عن رحمته: والعاجنات عجنا والخابزات خبزا واللاقمات لقما إهالة وسمنا إن قريشا قوم يعتدون. إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء ولهذا أرغم الله أنفه وشرب يوم الحديقة حتفه ومزق شمله ولعنه صحبه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم