أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده فقال " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى " وجعلنا قلوبهم قاسية " أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها " يحرفون الكلم عن مواضعه " أي فسدت فهو مهم وساء تصرفهم في آيات الله وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا عليه ما لم يقل عياذا بالله من ذلك " ونسوا حظا مما ذكروا به " أي وتركوا العمل به رغبة عنه وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة فلا قلوب سليمة ولا فطر مستقيمة ولا أعمال قويمة " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالئوهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم " فاعف عنهم واصفح " وهذا هو عين النصر والظفر كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه وبهذا يحمل لهم تأليف وجمع على الحق ولعل الله يهديهم ولهذا قال تعالى " إن الله يحب المحسنين " يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية " فاعف عنهم واصفح " منسوخة بقوله " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية. وقوله تعالى " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم " أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسوا كذلك أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره وعلى الايمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ففعلوا كما فعل اليهود خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ولهذا قال تعالى " فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة ولذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها فالملكية تكفر اليعقوبية وكذلك الآخرون وكذلك النسطورية والآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ثم قال " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله ورسوله وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا من جعلهم له صاحبة وولدا تعالى الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل فقال " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير " أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " فكان الرجم مما أخفوه ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " أي ينجيهم من