شمر عن الليث، قال: ولم أسمعه لغيره، وبه أول قوله تعالى: (بل أدرك علمهم) (1) أي فني علمهم في الآخرة (2)، قال الأزهري: وهذا غير صحيح في لغة العرب (3)، وما علمت أحدا قال: أدرك الشيء: إذا فني، فلا يعرج على هذا القول، ولكن يقال: أدركت الثمار: إذا بلغت إناها وانتهي نضجها.
قلت: وهذا الذي أنكره الأزهري على الليث فقد أثبته غير واحد من الأئمة، وكلام العرب لا يأباه؛ فإن انتهاء كل شيء بحسبه، فإذا قالوا أدرك الدقيق فبأي شيء يفسر؟ أيقال إنه مثل إدراك الثمار والقدر. وإنما يقال انتهي إلى آخره ففني، قال ابن جني في الشواذ: أدركت الرجل وأدركته وأدرك الشيء: إذا تتابع ففني، وبه فسر قوله تعالى: (إنا لمدركون) (4). وأيضا فإن الثمار إذا أدركت فقد عرضت للفناء، وكذلك القدر وكل شيء انتهى إلى حده، فالفناء من لوازم معنى الإدراك، ويؤيد ذلك تفسير الحسن للآية على ما يأتي، فتأمل.
وقوله تعالى: (حتى إذا اداركوا فيها جميعا) (5) أصله تداركوا فأدغمت التاء في الدال، واجتلبت الألف ليسلم السكون. وقوله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة) (6) قال الحسن فيما روى عنه: أي جهلوا علمها، ولا علم عندهم من أمرها كذا في النسخ، وفي بعض الأصول في أمرها، قال ابن جني في المحتسب: معناه أسرع وخف فلم يثبت ولم تطمئن لليقين به قدم.
قلت: فهذا التفسير تأييد لما نقله شمر عن الليث، قال الأزهري. قرأ شعبة (7) ونافع: " بل ادارك " وقرأ أبو عمرو " بل أدرك " وهي قراءة مجاهد وأبي جعفر المدني، وروى عن ابن عباس أنه قرأ " بلى (8) آأدرك علمهم " يستفهم ولا يشدد، فأما من قرأ " بل ادارك " فإن الفراء قال: معناه لغة في تدارك أي تتابع علمهم في الآخرة، يريد بعلم الآخرة تكون أو لا تكون، ولذلك قال: " بل هم في شك منها بل هم منها عمون " قال: وهي في قراءة أبي أم تدارك، والعرب تجعل بل مكان أم، وأم مكان بل إذا كان في أول الكلمة استفهام، مثل قول الشاعر:
فوالله ما أدري أسلمى تغولت * أم البوم أم كل إلي حبيب (9) معنى أم بل، وقال أبو معاذ النحوي: ومن قرأ: " بل أدرك " و " بل ادارك " فمعناهما واحد، يقول: هم علماء في الآخرة كقوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) (10)، ونحو ذلك، قال السدي - في تفسيره - قال: اجتمع علمهم في الآخرة، ومعناها عنده (11) أي علموا في الآخرة أن الذي كانوا يوعدون به حق، وأنشد للأخطل:
وأدرك علمي في سواءة أنها * تقيم على الأوتار والمشرب الكدر (12) أي: أحاط علمي بها أنها كذلك، قال: والقول في تفسير أدرك وادارك ما قال السدي وذهب إليه أبو معاذ النحوي وأبو سعيد، والذي قاله الفراء في معنى تدارك، أي:
تتابع علمهم في الآخرة أنها تكون أو لا تكون ليس بالبين، إنما المعنى أنه تتابع علمهم في الآخرة وتواطأ حين حقت القيامة، وخسروا (13)، وبان لهم صدق ما وعدوا حين لا ينفعهم ذلك العلم، ثم قال جل وعز: (بل هم اليوم في شك من علم (14) الآخرة، بل هم منها عمون) أي: جاهلون، والشك في أمر الآخرة كفر. وقال شمر: هذه الكلمة فيها أشياء؛ وذلك أنا وجدنا الفعل اللازم والمتعدي فيها - في أفعل وتفاعل وافتعل