بها (صلى الله عليه وآله وسلم) فان هذا القرآن قد حير العرب، ليس فقط بما يتضمنه من قوانين عامة وشاملة، ومن معان واخبارات غيبية، ومن قصص فيها العبر والعظات، رأى فيها غير المسلمين تصحيحا دقيقا لما جاء منها في كتبهم، وغير ذلك من علوم ومعارف. وإنما قهرهم وبهرهم فيما كانوا يعتبرون أنفسهم، ويعتبرهم العالم بأسره قمة فيه، اكمالا للحجة، وحتى لا يبقى مجال لأي خيار، لان خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيئة كهذه، بحجة كهذه، لابد أن يجعلهم يذعنون وينقادون للحق، وإلا فلسوف يراهم كل أحد، ويرون أنفسهم أيضا معاندين للحق، ومناصرين للباطل.
نعم، لقد بهرهم هذا القرآن وحيرهم، ولم يترك لهم مجالا للخيار فإما الجحود على علم. (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)، واما الايمان والتسليم.
وإذا كنا نعلم: أن من مميزات العربي، وبحكم حياته وطبيعته: أنه كان يعيش حياة الحرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولم تلوث فكره وعقله الأفكار والشبهات والآراء المصطنعة - كما كان الحال بالنسبة لسائر الأمم، كالرومان والفرس وغيرهما، الذين كانوا يحاولون فلسفة أديانهم البعيدة عن الفطرة، والمنافرة لها، وإظهارها بمظاهر معقولة ومقبولة - إذا كنا نعلم ونرى ذلك، فان هذا القرآن قد جاء منسجما مع فطرة العربي، ومتلائما مع طبعه وسجيته، ومع صفاء نفسه وقريحته، تماما كما كانت الدعوة نفسها منسجمة مع فطرته وروحه، ويستجيب لها عقله، وضميره ووجد انه، لأنه كان يعيش على الفطرة، والاسلام دين الفطرة: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم﴾ (1).