النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل ذكي وحذر. ثم هو يتركه ثلاثة أيام لا يسأله عن أمره حتى لا يشعر هذا الضيف بأن مضيفه ربما يكون قد ضاق به ذرعا، أو مل وجوده، وليكون قد أتاح له الفرصة ليستأنس في هذا البلد الذي يراه غريبا عليه، ويألفه، ويرتاح إليه نفسيا، كما ارتاح جسديا، وليكون أنفذ بصيرة، وأكثر اطمينانا في بيان حاجته التي جاء من أجلها.
وثامنا: ان جهر أبي ذر باسلامه، وتعريضه نفسه للضرب والإهانة من قبل المشركين، إنما يعكس لنا مدى اعتزاز أبي ذر باسلامه هذا، ومدى استعداده للتضحية في سبيله. ثم هو يعكس مدى حنق قريش ورعونتها في مواجهة الدعوة إلى الله تعالى، حتى إنها تنسى: أن من تبطش به ربما يكون في المستقبل سببا في عرقلة تجاراتها إلى الشام، ومضايقتها اقتصاديا. نعم، تنسى ذلك، وتهجم عليه لتضربه، ثم ترتد عنه لا بدافع انساني، ولا عن قناعة فكرية، وإنما لدوافع اقتصادية دنيوية، تعكس أنانيتها، ومستوى تفكيرها أولا وأخيرا. ولا شئ أخطر على الانسان من الأنانية التي ربما تضع على عينيه غشاوة، فلا يبصر الحق الأبلج، ولا يهتدي سواء السبيل.
وتاسعا: لعل أبا ذر قد أراد كسر شوكة أعداء الاسلام، وفتح ثغرة في هذا الجبروت. ثم كسر حاجز الخوف لدى المسلمين، ليتشجعوا على مواجهة الاخطار، وضرب المثل الحي لهم في مجال التضحية من أجل الدين والحق، كما أن ذلك لسوف يؤثر على من يميلون إلى هذا الدين ويتعاطفون مع المسلمين، ويثير إعجابهم بصورة كبيرة.
وأخيرا، فلسوف نرى: أن ثمة محاولات لنسبة موقف أبي ذر الشجاع والجرئ، والفذ هذا تجاه قريش إلى غيره من الصحابة، كابي بكر تارة، وعمر أخرى.
ولكن كل ذلك لا يمكن أن يصح، كما سنذكره حين الحديث عن إسلام عمر، وهجرة أبي بكر.