رجب المرجب صعد طائر روحه إلى رياض جنات عدن تجري من تحتها الأنهار أسكنه الله في غرفات الجنان، وأفاض عليه رشحات الغفران.
تعليقنا على ما تقدم ويرى القارئ فيما تقدم كيفية نشوء الأسرة الصفوية وتدرجها في تأسيس ملكها، كما يرى دقائق تحركات الشاه إسماعيل في معاركه، ومسراه في توطيد سلطته خطوة خطوة، كما يلحظ حرج الكاتب وهو يذكر معركة جالديران الذي انهزم فيها الشاه إسماعيل أمام السلطان سليم، وكيف يبرر الهزيمة بمحاولة المبالغة في عدد جنود السلطان وقلة عدد جنود الشاه، كما أنه يركز على البطولة الشخصية للشاه في المعركة ليزيل أثر الهزيمة من النفوس.
وكنا تطرقنا فيما كتبناه في المجلد الأول من المستدركات إلى ما ذكره النهروالي عن الأسرة الصفوية من أنها لم تكن أسرة شيعية وأن المتشيع الأول فيها هو الشاه إسماعيل وناقشنا هذا القول بعض المناقشة. والكاتب هنا لا يشير إلى شئ من ذلك مما يدل على أنه ليس من رأي النهروالي في هذا الموضوع، ولكنه يؤكد تصوف الصفويين الأوائل تصوفا عريقا عميقا، وينسب إلى بعضهم من الكشف الغيبي وأمثاله ما لا يصح، كما أن نزعة الكاتب الصوفية تبدو فيما يكتب وفيما يعرض من مصطلحات في التعبير والأداء وتبنيه لأساليبهم في السعي والوصول وغير ذلك. على أن ما يلفت هو ما نقله عن الأمير عبد الله الذي التقاه صفي الدين في بيضاء بولاية فارس، من مخاطبته لصفي الدين بقوله أيها الشاب التركي فمن أين جاءت هذه الصفة لصفي الدين، وما هي أصول تركيته هذه وما حدودها...، وما هي نتائج معرفتنا بها؟.
ثم إن الكاتب يقول قبل ذلك عن صفي الدين: وقد تغلب عليه رغبة السير والسلوك وإدراك مشاكل عالم المعنى، ووضع خطاه وسار في واد الجهاد ونكران الذات والتصوف. ثم يضيف إلى ذلك قوله: وكان ينوي أن يلزم خدمة مرشد عالم جليل صاحب مكارم يتتلمذ على يديه ويكسب آداب السلوك....
وهذا يدل كما هو معروف على أن المتصوف الأول في هذه الأسرة هو رأسها المنسوبة إليه: صفي الدين، وعلى أنه لم يرث التصوف عن آبائه، بل هو الذي بدأه في قومه.
ومما يرشد إلى ذلك قول الكاتب عن رحيل صفي الدين إلى شيراز للاتصال بالشيخ الصوفي الشيخ نجيب الدين مرعشي الشيرازي.
أنه كان لصفي الدين أخ ثري وجيه معروف في شيراز، وأنه اتخذ من وجود أخيه فيها ذريعة لاستئذان والدته بالسفر إلى شيراز، ومعنى ذلك أن أخاه لم يكن صوفيا، بل هو في ثرائه ووجاهته بعيد عن التصوف ولو كان أبوه وجده صوفيين لبان أثر ذلك عليه، وأن كل ما كان من شان للأسرة قبل صفي الدين هو أنها لا تتميز بشئ عن كل الأسر البسيطة، وأن تميزها بدأ بصفي الدين لذلك سميت به ونسبت إليه.
وأما عن تشيع صفي الدين فإننا لا يمكن أن نستدل عليه من تتبعنا لسيرة المشايخ الذين قصدهم وتتلمذ عليهم كالشيخ ظهير الدين مرعش، والشيخ ركن الدين البيضاوي، والأمير عبد الله، والشيخ إبراهيم زاهد، والكيلاني الذي تزوج صفي الدين ابنته وورث مقامه وصار بعد موته رأسا صوفيا طيلة خمس وثلاثين أو أربعين سنة على اختلاف الأقوال، ثم توالت رئاسة التصوف بعده في أحفاده ابتداء من ولده صدر الدين موسى.
فليس لدي أنا حتى الآن ما يدل على تشيع هؤلاء المشايخ، بل إن ما يبدو في أحوالهم وتصرفاتهم الصوفية ما يمكن أن يدل على العكس، فهذا الانحراف في التصوف لا يعرفه التشيع، ومتصوفو الشيعة كان تصوفهم معتدلا مقبولا لا يتعدى نوعا من الزهد الذي لا يدفع إلى الشطحات وادعاء الغيبيات وما إلى ذلك.
واتصال صفي الدين بمن اتصل بهم، وأخذه بطريقتهم وانكبابه على تعاليمهم قد لا يدل على تشيعه، ويبقى علينا إذا صح هذا الرأي أن نصل إلى المتشيع الأول فيهم بعد أن عرفنا المتصوف الأول. على أننا لا نسلم مع النهروالي (1) بان المتشيع الأول هو الشاه إسماعيل بعد أن أثبت هو نفسه أن حيدر الجد الأعلى للشاه إسماعيل هو الذي صنع التاج ذا الاثني عشر ضلعا أحمر وهو إشارة إلى الأئمة الاثني عشر وأمر أتباعه أن يلبسوا نظيره فعرفوا باسم القزلباش وهو اسم لا يطلق إلا على الشيعة، ولا يزال بعضهم حتى اليوم معروفين به.
على أن رأي الكاتب حسين بن مرتضى يتنافى مع استنتاجنا عن الشك بتشيع صفي الدين، فهو يرى تشيعه ويرى أنه هو أول من فكر بتأسيس دولة شيعية، وأن ما حققه حفيده إسماعيل كان تحقيقا لأحلام جده الأعلى صفي الدين ووصولا إلى رغباته واستجابة لدعائه.
فالكاتب يفتتح حديثه عن الشاه إسماعيل بهذا النص: ولما كانت العناية الأزلية وإرادة واهب العطيات قد وعدت باستجابة دعاء واستدعاء سماحة سلطان الأولياء وبرهان الأصفياء في صومعة عارف المعارف الربانية الشيخ زاهد الكيلاني، وكان قد طلب من العلي المنان السلطة الدنيوية والأخروية وما كان مقصوده من السلطة الحكم والمال، بل كان مقصوده السلطة المعنوية والسعادة ورواج مذهب الأئمة الاثني عشر وكلمة علي ولي الله الطيبة واستخلاص الشيعة الإمامية الناجية وأنصار وأصحاب الإمام علي من بلية التقية....
ونظل نحن عند استنتاجنا مجرد استنتاج ويظل للكاتب رأيه، ونحن في الوقت نفسه نعترف بأنه لا يمكن أن يرسل قوله هذا جزافا فلا بد أن يكون مستندا إلى حقائق وصل إليها ولم تصل إلينا، ويبقى للقارئ حكمه على ما