محاولة القضاء على الدولة في مهدها إذا كان ما ذكره النهروالي هو تعبير عما كان يعتلج في قلوب الآخرين من قيام الدولة الشيعية، وهو كلام مجرد كلام، فان السلطان سليم قد صمم على أن يحيل هذا الكلام إلى فعل، فالتفجع لوقوع هذا الحدث الخطير لا يعني شيئا في حين أن المطلوب هو العمل المجدي الذي يحول دون استفحال أمر هذه الدولة، ثم القضاء عليها في مهدها. وهذا ما صمم عليه السلطان سليم وقرر تنفيذه.
ويقول صاحب كتاب تاريخ العرب الحديث في الصفحة 16 ما يلي:
دخل إسماعيل مدينة تبريز عام 908 1502 م حيث أعلن نفسه ملكا وحاميا للمذهب الشيعي الذي جعله المذهب الرسمي للبلاد إلى أن يقول بعد أن يردد ويخترع ما يردده ويخترعه من اتهامات هي وليدة النقمة على قيام الدولة الجديدة ليس إلا، وإن كنت لا تعجب من نقمة الماضين، فإنك لتعجب وتأسف أن يكون لأساتذة الجامعات ومؤلفي التاريخ الحديث في هذا العصر نفس الذهنية التي كانت للنهروالي وأمثاله قبل قرون وقرون.
يقول صاحب تاريخ العرب الحديث متابعا كلامه السابق: وشعر المسؤولون في استانبول بعظم الخطر الجديد، فاجبر سليم أباه المسالم بايزيد الثاني على التنازل عن العرش، وأهمل سليم جبهة البلقان وركز اهتمامه بشؤون دار الاسلام.
لقد رأى بل رأوا الخطر في قيام دولة شيعية تكف الأذى عن الشيعة، وليس الخطر بل عظم الخطر، ولم ير بل لم يروا عظم الخطر في صليبية البلقانيين بل رأوه في إسلام الصفويين. فأهمل سليم جبهة البلقان وركز اهتمامه بشؤون دار الاسلام، على حد تعبير صاحب تاريخ العرب الحديث.
ولنعد الآن إلى بقية حديث النهروالي المعاصر للأحداث. يقول النهروالي متحدثا عن السلطان سليم:
فلما وصلت أخباره الشاه إسماعيل إلى السلطان سليم خان تحركت فيه قوة العصبية، وأقدم على نصرة السنة الشريفة السنية، وعد هذا القتال من أعظم الجهاد، وقصد أن يمحو من العالم هذه الفتنة وهذا الفساد، وينصر مذهب أهل السنة الحنيفية على مذهب أهل البدع والالحاد، ويأبى الله إلا ما أراده، فتهيأ السلطان سليم بخيله ورجله وعساكره المنصورة ورحله وسافر لقتاله، وأقدم جلاده وجداله، وهو يجر الخميس العرمرم ويصول بسيف عزمه ويقدم ويتقدم، إلى أن تلاقى العسكران في قرب تبريز، ورتب السلطان سليم عسكره، وتنزل من عند الله الفتح القريب والنصر العزيز، فتجالد الفريقان بجالدران وتطارد الفرسان وتعانق الشجعان يهدرون كاليخاتي الفوالج فوق البحور الموايج، وتصادمت فرسان الزحف والصيال، تصادم أطواد الجبال، وصارت نجوم الأبطال رجوم البطش والقتال، فزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأهوال أثقالها، وحيلت المعركة سماء غمامها والقسطل، وصواعقها بروق البيض من بريق الصيقل، ورعودها صليل السيوف في أعتاق الجحفل، وغيوثها صبيب الدم من أوداج رؤوس تحز وتفصل، وأحجار المدافع كجلمود صخر حطه السيل من عل، إلى أن طارت قلوب الأعداء هواء وذهبت قواهم هباء، وولوا على أدبارهم إدبارا، وانهزم شاه إسماعيل وولى فرارا، ولم يجد له من دون الله أنصارا.
هذا هو الوصف المجلجل الذي خطه قلم النهروالي لمعركة جالديران ولا عجب في ذلك وهو يتحدث بلسان المنتصرين. وإذا قارناه بالوصف المتقدم للمعركة بقلم مؤرخ الصفويين نرى كم كان هذا الأخير مجمجما متلجلجا يريد أن يخلق من الضعف قوة، ولا عجب فهو ينطق بلسان المنهزمين. المنتصرون لا الانتصار العسكري فحسب بل الانتصار العقائدي المذهبي الذي يرى في الآخرين ضلالا، وفي قيام دولتهم الهول كل الهول!...
والمنهزمون لا الانهزام العسكري فحسب بل انهزام الحلم الجميل الذي عاشوه قرونا وقرونا حتى إذا تحقق رأوه يكاد ينطوي في طيات الزمن!...
وقد كان يمكن أن تكون معركة جالديران حاسمة بكل معاني الحسم، وأن تقضي على الدولة الصفوية، القضاء المبرم، ولكنها لم تكن كذلك، بل مرت مرورا عابرا عاودت بعده الدولة الجديدة مسيرتها المظفرة، فكان لا انهزاما ضاريا أصابها، ولا انتصارا كاسحا ناله عليها أعداؤها، فالجيش تمزق في جالديران، والعاصمة احتلت، وأصبحت البلاد كلها عرضة للاحتلال والاغتصاب دون مدافع ولا ذائد ولا مانع. فإذا بإسماعيل ينهض من بين الأنقاض وينفض عنه غبار الهزيمة ويعاود النصر بعد النصر حتى يصل إلى بغداد والموصل والبصرة!...
أما السبب في ذلك فيحدثنا عنه النهروالي:
ولكننا قبل أن ننقل وصف ما جرى بعد الهزيمة لا بد لنا من أن ننقل الجملة التي ختم بها النهروالي وصفه للمعركة حيث قال:
فوطئت حوافر خيله السلطان سليم أرض تبريز فنهى فيها وأمر، وقتل من أراد وأسر، وأعطى الرعية تمام الأمن والأمان، ونشر فيها أعلام أهل الايمان.
ولا يبالي النهروالي بان يقع في التناقض ما دام قد شفى غيظه بهزيمة الشاه إسماعيل، فكيف يجتمع الأمن والأمان مع القتل والأسر.
والمهم في هذا الكلام هو قوله: ونشر فيها تبريز أعلام أهل الايمان فأعلام الصفويين أعلام أهل الكفر، وأعلام العثمانيين أعلام أهل الايمان!...
بهذه الذهنية التي ليست هي ذهنية النهروالي وحده بهذه الذهنية تخلى السلطان سليم عن مقارعة صليبية البلقانيين ونهد إلى مقارعة إسلام الصفويين!...
والتناقض الذي يقع فيه النهروالي والذي أشرنا إليه من قبل ليس هو التناقض الوحيد. بل إن النهروالي الذي زعم فيما تقدم من القول أن الشاه إسماعيل قتل العلماء حتى لم يبق منهم أحد، يقول الآن إن السلطان سليم حين رحل رحيله عن تبريز: أخذ منها من أراد من الفضلاء الأفاضل، والمتميزين في الصنائع والفضائل، والشعراء الأماثل وساقهم إلى إسطنبول.
إذن فتبريز كانت مملوءة بالفضلاء الأفاضل والشعراء الأماثل، وإذن فان الشاه إسماعيل لم يقتلهم!...