ويعتبر منطلق الاغتراب، وأساسه العميق في نفسية وحياة وشعر السيد الرضي ثنائي المجد والفجيعة، الذي اكتسب بعده التاريخي في قطاع طويل من المسلمين، هو قطاع الطالبيين، والذي أصبح بامتداده عبر الحقب الزمنية ذا سمات ايديولوجية، واجتماعية راسخة.
ويقوم الثنائي المذكور على حقيقتين تنطويان على مفارقة مأساوية: الحقيقة الأولى مجد الشريف الرضي، وأسرته الذي ينطلق في الحسب والنسب من الإمام علي بن أبي طالب ع وأهل بيت النبي ص.
أما الحقيقة الثانية فهي مقاتل الطالبيين، والفجيعة الحسينية الكبرى.
وتكمن المفارقة الدامية في أن النسب المجيد، بدلا من أن يقود إلى احتياز مكانة الحق والقيادة وتصريف أمور الناس من قبل سلالة أهل بيت النبي، فإنه قادهم إلى حتوفهم، وإلى مواضع الاضطهاد العاتي.
وشعر الشريف الرضي مليء بافتخار الحسب والنسب، فالنبي جده، والامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والده.
فمن قوله يفتخر ويذم الزمان في قصيدة مطلعها:
أتذكراني طلب الطوائل * أيقظتما مني غير غافل قوما فقد مللت من إقامتي * والبيد أولى بي من المعاقل إن أمير المؤمنين والدي * حز الرقاب بالقضاء الفاصل وجدي النبي في آبائه * علا ذرى العلياء والكواهل فمن كأجدادي إذا نسبتني * أم من كأحيائي أو قبائلي من هاشم أكرم من حج ومن * جلل بيت الله بالوصائل قوم لا يديهم على كل يد * فضل سجال من ردى ونائل فوارس الغارات لا يطربهم * إلا نوازي نغم الصواهل أرى ملوكا كالبهام غفلة * في مثل طيش النعم الجوافل وقال وهو يفتخر بآبائه عموما:
لنا الدولة الغراء ما زال عندها * من الجور واق أو من الظلم منصف بعيدة صوت في العلى غير رافع * بها صوته المظلوم والمتحيف ونحن أعز الناس شرقا ومغربا * وأكرم أبصار على الأرض تطرف وكل محيا بالسلام معظم * كثير إليه الناظر المتشوف وأبيض بسام كان جبينه * سنا قمر أو بارق متكشف حيي فان سيم الهوان رأيته * يشد ولا ماضي الغرارين مرهف بنا الجبهات المستنيرات في العلى * إذا التثم الأقوام زلا وأغدفوا ومن قبل ما أبلى ببدر وغيرها * ولا موقف إلا له فيه موقف ورثنا رسول الله علوي مجده * ومعظم ما ضم الصفا والمعرف وعند رجال أن جل تراثه * قضيب محلى أو رداء مفوف يريدون أن نلقي إليهم أكفنا * ومن دمنا أيديهم الدهر تنطف فلله ما أقسى ضمائر قومنا * لقد جاوزوا حد الحقوق وأسرفوا ورغم أن القصيدة تصل إلى هدف محدد يتعلق بوالده السيد أبي أحمد الموسوي، إلا أن الابتداء الفخاري بالحسب والنسب واللقب وبالتاج النبوي الأكبر، سرعان ما يتدرج إلى لازمته الضرورية التي لا مناص منها، وهي التفجع، ومرارة التأسي ومن الناحية التاريخية، إن الطعنة الغادرة التي أنهت حياة الدنيا لعلي ابن أبي طالب كانت قد وضعت أهل البيت في نقطة المفترق، في حين جاء استشهاد الحسين بن علي يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين ذروة المأساة، التي تتردد صيحتها بين جنبات العالم الاسلامي بهدير لم يهدأ أبدا بل هو في ازدياد.
وإذا ما كان التفجع لاستشهاد الحسين تظاهرة تاريخية كبرى يشترك فيها ملايين المسلمين، ويشاركهم العزاء العديد من غير المسلمين، فكيف الحال والشريف الرضي من أحفاد الحسين، وهو: أبو الحسن، الشريف الأجل، الملقب بالرضي، ذو الحسبين، محمد بن الحسين أو محمد بن أبي أحمد بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
لقد جاء اغتراب الشريف الرضي وغربته من الفجيعة الأليمة، والمأساة التي لا مثيل لها، من تلك البداية الجليلة، في يوم عاشوراء، حينما استشهد الحسين، ومعه الكوكبة الطاهرة من شهداء أهل البيت: العباس، وجعفر، وعثمان، ومحمد، وأبو بكر أولاد علي بن أبي طالب، وعلي، وعبد الله ولدا الحسين، وأبو بكر، وعبد الله، والقاسم أولاد الحسن، وعون الأكبر ومحمد ولدا عبد الله بن جعفر، وجعفر وعبد الرحمن، وعبد الله، ومسلم أولاد عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل.
لقد جرى قتل أهل بيت الرسول بأيدي أناس كانوا يدعون الاسلام، وهذا ما أعطى للمأساة بعدا فجائعيا لم يتكرر في التاريخ.
فلم يرو أحد في جميع مراحل التاريخ أن بشرا يقتلون أهل بيت نبيهم، وباسم خلافة الدين! إلا في مناسبة واحدة هي ملحمة عاشوراء.
كان النبي يقول: استوصوا باهل بيتي خيرا، فاني أخاصمكم عنهم غدا، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار.
وكان يقول: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله: فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به. ثم أهل بيتي... أذكركم الله في أهل بيتي... أذكركم الله في أهل بيتي... أذكركم في أهل بيتي.
وكانت أحداث عاشوراء أكبر من خيانة نبي، لأنها كانت محاولة لامحاء ذرية النبي، لكن الله أحبط مساعي الظالمين، فجعل البلاء الذي مر به أهل البيت قوة للدين، ونصرة لأفكار الشهداء الخالدين، وإنما البلاء على قدر صدق الصادقين. وفي حديث نبوي: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه، فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
ومثلما توارثت سلالة الحسين العلم والمناقب الشريفة، فإنها توارثت الشعور المتجدد بقوة النكبة، فافرد الشريف الرضي غررا من القصائد في رثاء أبي عبد الله الحسين بن علي، ومنها رثائية عاشوراء سنة 387: