الشعر بالايمان، والتي يمكن إدراك مدى صدق الشاعر، وجديته، أو حقيقيته بتعبير أدق.
وفي واقع الأمر أن العودة إلى المنطلق القرآني ضرورية تماما، وخاصة بالنسبة إلى شاعر هو الشريف الرضي، المسلم أولا، ومن سلالة النبي الكريم ثانيا إضافة إلى ذلك، أن المنطلق القرآني يقدم تصورا شاملا عن اغتراب الشاعر ومعاناته العجيبة، التي لا حل لها إلا في الايمان، والالتزام، والنظر بعين الحق.
فحيث يرتبط الشاعر بأسباب الحياة والمعيشة والعلاقات الاجتماعية، وهي أسباب مادية فإنه، شان أي إنسان آخر، يخضع لقوانين الحياة، ومتطلبات العيش، والضرورات الاجتماعية، وحيث ينتمي الشاعر إلى الشعر فإنه يحلق في فضاءات الأخيلة والرؤى بعيدا عن القوانين والعلل المادية للحياة.
وما من ضرورة، في أن يؤدي ذلك التناقض بين أسباب الحياة ودواعي الشعر وسياحاته إلى الازدواجية، ما دام الشاعر متمسكا بيقينه الفكري، وهداه الروحي، إلا أن من المؤكد أن اغتراب الشاعر هو حقيقة كل شاعر بالنهاية.
إن مسار القدمين شئ، وهوى رأس الشاعر شئ آخر.
فهوى رأس الشاعر هو الذي يستصفي واقع الحياة على النحو الذي يتخيله. فهو يعيد رسم العالم بصورة شفافة، متنبئا بالمستقبل، أو حالما بالجديد، وذلك بالتحديد هو ميدان تعريفه، ولقبه، وشهرته.
إثر ذلك، يبدو من الصعب رد الشاعر إلى الواقع المادي، بكل متشابكاته الأرضية التي لا تفسح المجال أمام الأخيلة والأحلام، إلا من خلال برزخ واحد، هو برزخ القضية التي يؤمن بها إن كان مؤمنا.
وفيما عدا القضية التي ينتسب إليها الشاعر، ويؤمن بها، فان هواه هو الذي يقوده في عشرات الطرق، وشيطان شعره أقوى من عقله.
وقد انتبه أفلاطون إلى قداسة الشعر لدى الشاعر الحقيقي، فالشاعر كائن مقدس، مثير للاعجاب، يخلب الألباب، إلا أنه لا مكان له في جمهورية أفلاطون، ولا بد من إرساله إلى دولة أخرى مكرما، معززا.
ويذكر أفلاطون ذلك قائلا في المحاورات:... الأمر الذي تختص به دولتنا أن الإسكافي فيها إسكافي وليس ملاحا وإسكافيا في الوقت نفسه، والفلاح فلاح وليس قاضيا وفلاحا في الوقت نفسه، ورجل الحرب رجل حرب، وليس تاجرا ورجل حرب في الوقت نفسه. وذلك هو شان الجميع.
قال: هذا صحيح!.
يبدو إذن أنه إذا مثل في دولتنا رجل بارع في اتخاذ جميع القوالب، وتقليد جميع المظاهر لينتج قصائده وينشدها للجمهور، فلنا أن نثني عليه كما نفعل مع كائن مقدس، مثير للاعجاب، يخلب الألباب، ولكنا نقول له: ليس في دولتنا من يشبهه، ولا يمكن أن يكون فيها. ثم نرسله إلى دولة أخرى، بعد أن ننثر العطور على رأسه ونضفر له الأكاليل....
لكن أفلاطون وهو يقصي الشاعر عن جمهوريته، يبعد في الوقت ذاته أنصاره، فالشعراء في حالات الوجد الشعري والانخطاف، هم أقرب الناس إلى عالم المثل، وإلى المثالية الأفلاطونية. إلا أن خشيته من الشعراء ليست فلسفية بالدرجة الأولى، بل هي خشية تتصل بتنظيم المدينة الأفلاطونية، التي تحتاج إلى تلاحم العقول المفكرة مع الأيدي العاملة والمحاربة.
ورغم أن الشاعر يغتني من الحياة، وتتعمق تجربته في الصراع السياسي والاجتماعي والحياتي بعامة، إلا أن عالمه ليس العالم المادي للناس الآخرين، عندما يستولي عليه الشعر. بعبارة ثانية إن عالم الرؤى، والأخيلة، والأحلام، والتأملات، هو غير العالم الواقعي المعاش.
وفي العلاقة بين العالمين: المادي والرؤوي، يبدأ اغتراب الشاعر الذي لا يستطيع الشاعر ذاته التحكم بحدوده، مهما نضجت تجربته الشعرية، ومهما امتدت به خبرة الزمن. لأن أخيلة الشاعر الفتية، والمتجددة لا تعترف بالزمن. وبطبيعة الحال إن الاغتراب الشعري والحياتي للشاعر يعود إلى عوامل ذاتية وموضوعية، وعوامل روحية ومادية متداخلة، كما أن قهر الاغتراب، كإمكانية، يرتبط أيضا بسلسلة من العوامل الذاتية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ويمكن إجمال عوامل الاغتراب في عاملين متميزين:
الأول: الاغتراب الناجم عن طبيعة الشعر، لأن كل شعر هو تدفقات صورية، لا محدودة، وتخليقات شعورية ولا شعورية تأتي في لحظة غياب الشاعر عن واقعه الحسي.
فكل شعر إذن نوع من العلو المغترب في وقت الخلق الشعري.
أما العامل الثاني فهو يوجد جميع الظروف المادية والأسباب الشخصية والعامة المؤدية إلى الغربة والمعاناة الدائمة، وبلا شك، إن هذه الظروف والأسباب تلعب دورا كبيرا في تغذية مضامين الشعر، وتحديد اتجاه الشعر، أو تغييره وتتداخل العوامل تداخلا معقدا، إلى الحد الذي تصبح فيه عملية فرز الأسباب الرئيسية عن الثانوية في تحديد نوع المؤثرات المغربة من أشق العمليات التحليلية. لأن نفس الشاعر المرهفة، والشديدة الحساسية، تكبر فيها الانفعالات أو تصغر، خارج إمكانات القياس الاعتيادية. فاستجابات الشاعر، وردود فعله، ليست بالأمر الذي يسهل تعيين حدوده.
لذلك يمكن القول إن ثمة عوامل صغيرة جدا، أو غير معروفة، أو لا شعورية غير معروفة حتى من قبل الشاعر نفسه قد تكون محرضا فعالا في تقرير اختيارات الشاعر، وانتهاجاته السريعة أو طويلة الأمد.
ومن الثابت أن الأسباب اللاشعورية تسهم إسهاما كبيرا في تكوين جانب كبير من جوانب العالم الشعري، سواء أكان ذلك في المضمون أو في الشكل.
ومع أن الشعر يأتي من الشعور، إلا أن اللاشعور يتعهد بصياغة أهم ما في الشعر، إذا ما فهمنا الشعر بمعناه الحقيقي كشعرا.
والشاعر الرضي أنموذج الشاعر المبدع الذي سقى زرعه بالاغتراب العميق، وبعيد الغور، والمتجذر في النفس، وفي الزمان، وفي المكان، وتبرز الغربة في شعره عبر مئات الصور الشعرية الحزينة، والرثائية، والبكائية، مثلما هي بارزة في حياته التي تقسمتها التعاسات.