كل ذلك ساعد على الانحلال الاجتماعي، بحيث صارت محلات القيان والغلمان أمرا معتادا يتردد عليها الناس، ويرتادها الكثيرون، وتطرح فيها الحشمة. وكانت مجالس الأشراف والوزراء تالف هذا النوع من الحياة التي أصبح فيها المجون والخلاعة نوعا من الترف الحضاري، والتظرف الاجتماعي.
وكان الوجه الآخر للترف والمجون انتشار البؤس والفاقة، في القاعدة الاجتماعية العريضة، وعيش العلماء البعيدين عن السلطة في حرمان وفاقة.
فكان أن هجر بغداد مثلا عبد الوهاب المالكي، وقذف في وجه عصره بأشنع وصمة، وهو يقول لمودعيه: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية، ما عدلت عن بلدكم لبلوغ أمنية.
إن اجتماع الفقر والفساد الأخلاقي والثراء الفاحش خلق وسطا صالحا للتأثيرات المنافية للدين الاسلامي وللتقاليد العربية الاسلامية.
فكان الزهد موقف الرفض التام للانحرافات الشاذة التي طعنت الاسلام والعروبة في الصميم. وكان على مراتب ودرجات. وهي في مجموعها تهتدي بسلوك النبي الكريم المعروف بزهده وتقشفه. وقد كان الحديث النبوي:
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا هو المقياس الذي حدده الاسلام، وهو التقوى على أساس العمل للدارين لا تقوى المترهبين المستغرقين في التأمل والعبادة. وقد استطاع الاسلام أن يحقق المثل الأعلى الذي صوره نظريا للشخصية المسلمة. فتجلى في كثير من صحابة رسول الله ص ذلك الطراز العامل لدنياه وآخرته، المتعاون في سبيل خلق الحياة الصالحة لأفراد مجتمعه.
وقد استلهم الشريف الرضي نظرته إلى الدنيا من القرآن الكريم: يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
فقال الرضي في شعره ما لي إلى الدنيا الغرورة حاجة * فليخز ساحر كيدها النفاث طلقتها ألفا لأحسم داءها * وطلاق من عزم الطلاق ثلاث سكناتها محذورة وعهودها * منقوضة وحبالها أنكاث أم المصائب لا يزال يروعنا * منها ذكور نوائب وإنشاث إني لأعجب من رجال أمسكوا * بحبائل الدنيا وهن رثاث كنزوا الكنوز وأغفلوا شهواتهم * فالأرض تشبع والبطون غراث أتراهم لم يعلموا أن التقى * أزوادنا وديارنا الأجداث أما ثالث العناصر المكونة للاغتراب الروحي للشريف الرضي فهو تفوقه العقلي، وتمتعه بمؤهلات ومزايا شخصية كبيرة تتناسب مع دوره الطليعي ورسالته الدينية والاجتماعية.
وقد تجلت الجدارات العقلية والأدبية، ورهافة الشعور، وشجاعة الطبع في الشريف الرضي منذ طفولته، فكانت غربة الذكاء النادر من سماته الأولى، فقد قال من أحسن الشعر وهو في العاشرة من عمره، وكانت غربة الاحساس الصقيل، الانفعالي المرهف قد بكرت معه منذ طفولته، فلا عجب أن زار الشيب شعر رأسه في العشرين، وشيب الرأس من شيب الفؤاد.
فإذا ما جاز تشبيه الناس بالمعادن، فان الشريف الرضي كان من أكرمها وأغناها، وفي حديث نبوي: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الاسلام إذا فقهوا.
وقد توفرت في الشريف الرضي صفات ذهبية متكاملة من ذكاء، وشجاعة، وكرم وسخاء ورهافة حس، وحب للناس، وقد شملته عاطفة غامرة، كان يجود بها على الأصدقاء والأقربين ففاض بها شعره مثلما فاضت بها نفسه.
وكما في كل العصور فان الشخص المتفوق، المرهف، المبدع، يجد نفسه غريبا بين أوساط من الناس الذين تتجاذبهم الأطماع والأهواء، الذين ينعقون مع كل ناعق، ولا يعرفون للحق سبيلا.
ويشهد التاريخ أن العوام الذين لم تشملهم الهداية وعوامل التغيير الثقافي الإنساني، هم الذين حاربوا وطاردوا الرسل والأنبياء والصالحين وذوي الكرامات والمتقدمين المبرزين على طريق الفلاح.
ولم يكن الشريف الرضي في غربته الروحية أقل بلاء من الذين امتحنهم البلاء فما ازدادوا إلا صلابة وإيمانا.
وأول غربة في طريق الاغتراب الروحي الطويل كانت غربة النفس، والتي قال فيها الشاعر الرضي:
النفس أدنى عدو أنت حاذره * والقلب أعظم ما يبلى به الرجل وكانت قصيدة هذا البيت تذم الزمان، الذي لم تنقض فيه الحاجات في حين كان الشباب يولي مسرعا:
ولى الشباب وهذا الشيب يطرده * يفدي الطريدة ذاك الطارد العجل ما غازل الشيب في رأسي بمرتحل * عني وأعلم أني عنه مرتحل من لم يعظه بياض الشعر أدركه * في غرة حتفه المقدور والأجل من أخطأته سهام الموت قيده * طول السنين فلا لهو ولا جذل وضاق من نفسه ما كان متسعا * حتى الرجاء وحتى العزم والأمل إن نفس الشريف الرضي المشدودة بالأيام الأولى التي لا عودة لها، لم تجد في بقاء الحياة أي أمل:
وكيف نأمل أن تبقى الحياة لنا * وغير راجعة أيامنا الأول وتبعا لثقافة الشريف الرضي فان أفكاره عن النفس متصلة اتصالا وثيقا بثقافته القرآنية، أولا، وبتجربته الشخصية ثانيا.
ويعد قول الرسول: أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك هي المؤشر الرئيسي الذي تلقفه الثقات، الذين وضعوا نصب أعينهم هدفا كبيرا وهو تطهير النفس، وتحريرها من كل الموبقات والشوائب والسلبيات. فالتطهير هو الطريق إلى معرفة النفس، وأن الجهل بالنفس هو في واقعه اتباع هواها والانخداع برغباتها.
وحينما كان الشريف الرضي يعقد موازنة بين عداوة الناس وعداوة النفس، كان يرى أن نفسه أعدى له من جميع الناس، ويقول في ذلك: