فيفخر هذا الفخر الموغل في المبالغة.
وما ندري، أهذا النوع من الفخر، وقد كان أمرا مألوفا في شعرنا العربي عهد أبي العلاء، يدخل في باب المين والصفاقة، كما يرى الدكتور طه حسين، بحيث ينبغي أن ننزه عنه شيخ المعرة؟... هنا أيضا مسالة الخطأ التي أشرنا إليها في مطلع هذا الفصل، الخطأ في إسباع ثوب الشيخوخة الزاهدة المتزمتة على حياة أبي العلاء كلها من حداثته وشبابه إلى يوم محبسيه...
وفي المسألة أمر آخر: أيصح، من الوجهة الفنية المحض، أن نصف المبالغات الشعرية في باب الفخر، كذبا وصفاقة، مع أننا نعلم أن أمثال هذه المبالغات لا تقتصد إلى المعاني الحقيقية الحرفية التي تنطق بها الألفاظ والعبارات، بل لا تقصد حتى إلى المعاني المجازية الجزئية المباشرة التي تدل عليها كل عبارة بنفسها منفصلة عن علاقتها بالكل الكامل لبناء القصيدة وموضعها، وإنما هي تقصد بمجموعها وبدلالتها الكبرى الشاملة إلى التعبير عن مشاعر إنسانية تمتزج بآمال الشاعر ومطامحه وأشواقه الكبيرة، غير أن خيال الشاعر قد يضخمها في فورة من فوران العنجهية الفردية، وقد يكون الكبت الاجتماعي أو الحرمان أو الشعور بالاضطهاد والظلم سببا في هذه الفورة، أو سببا في جموح الخيال إلى أبعد حدوده تعويضا عن نقص، أو انتقاما لحرمان...
إذا صح أن نصف هذه المبالغات بالكذب والصفاقة في باب الفخر، فلما ذا لا نصفها كذلك في باب المدح، أو في باب الرثاء، أو في باب الغزل الخ...
ومهما يكن، فقد فخر أبو العلاء فعلا، وغلا في ذلك حتى أنه، وهو الأخير زمانه، قد أتى بما لم تستطعه الأوائل... فما ذا يجدينا تنزيه أخلاقه عن الفخر؟. أترانا نقسره قسرا، بعد ألف عام، على أن لا يقول الشعر افتخارا؟.
أبو العلاء المعري في سقط الزند وقال الدكتور حسين مروة، كتب الباحثون كثيرا عن أبي العلاء، وفي القديم وفي الحديث، ونظروا إلى جوانب عديدة من حياته وأدبه وتفكيره ومعتقده، ولكن رأيت هؤلاء الباحثين، بالاجمال، لا يعنون العناية اللازمة بدراسة ديوانه الذي جمع فيه جملة من أشعاره واختار له هو بنفسه اسمه المعروف سقط الزند، قاصدا بهذه التسمية الشعرية المجازية أن يرمز إلى الحقيقة التي ينطوي عليها هذا الديوان، وإلى الواقع الذي يمثله من حياته ومن شخصيته ومن أدبه.
فان الزند لغة هو العود الذي تقتدح به النار، وسقط الزند هو أول نار تخرج من الزند عند الاقتداح. وقد قصد المعري هذا المعنى بذاته، لأن سقط الزند يجمع الكثير من شعره الذي نظمه في أوائل حياته، فهو إذن أول تلك النار العبقرية التي اقتدحها زناد ذهنه العبقري.
ولكن الأمر في هذه الأشعار لا يقتصر على هذا الظاهر السطحي من دلالة التسمية، بل الواقع أن ديوان سقط الزند يصح أن يكون المدخل الحقيقي لدراسة أبي العلاء دراسة مستوعبة متوغلة في جوانب شخصيته جميعا، وأعني أن هذا الديوان جدير بان يكون للباحثين والناقدين بمنزلة ما يسمى مفتاح الشخصية لمن يشاء منهم أن يستجلي شخصية أبي العلاء على حقيقتها وواقعها الأصيل.
وقد يرجع أكبر السبب في أن أولئك الباحثين لم يهتموا بديوان سقط الزند اهتمامهم بغيره من آثار أبي العلاء، إلى ما هو شائع عند الذين أرخوا لحياة أديبنا العظيم من القدماء، من أن هذا الديوان إنما يجمع أشعاره التي قالها في صباه... فقد تمسك الباحثون المحدثون بكلمة صباه على حرفيتها، ولم ينظروا إلى هذه الأشعار نفسها بحيث يجدون أن الذي صدر عنه في صباه هو أقل ما يحتويه سقط الزند، وأن أكثر هذه الأشعار وأروعها شاعرية وأقواها دلالة عليه إنما صدرت عنه في أعلى مراحل شبيبته، وفي أخصب مراحل شاعريته، وفي أدق التجارب التي عاناها في حياته قبل معتزله، بل في أقسى هذه التجارب وأعمقها أثرا في نفسه ووجدانه وتفكيره.
ولقد أبيح لنفسي أن أقول، إن الذين أرخوا لأبي العلاء من القدماء، قد أوهمونا أن صاحب سقط الزند نفسه لم يكن راضيا كل الرضا عن أشعاره التي تضمنها هذا الديوان، فقد نقل أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي عن أستاذه أبي العلاء نفسه ما يوهم هذا المعنى، إذ قال:
لما حضرت أبا العلاء، قرأت عليه كثيرا من كتب اللغة، وشيئا من تصانيفه، فرأيته يكره أن يقرأ عليه شعره في صباه، الملقب ب سقط الزند، وكان يغير الكلمة بعد الكلمة منه إذا قرئت عليه، ويقول معتذرا عن تأبيه وامتناعه من سماع هذا الديوان: مدحت نفسي فيه، فلا أشتهي أن أسمعه. وكان يحثني على الاشتغال بغيره من كتبه (1).
وفي رسالة كمال الدين بن العديم، المسماة الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتحري عن أبي العلاء المعري قال مؤلف الرسالة وهو يستعرض تواليف أبي العلاء: من الأشعار التي نظمها: ديوانه المعروف بسقط الزند وهو ما قاله في أيام الصبا في أول عمره، وهو من أحسن أشعاره، وقد اعتنى به العلماء وشرحوه، مقداره خمس عشرة كراسة، تزيد أبياته المنظومة على ثلاثة آلاف بيت، شرحه الخطيب التبريزي وشرحه ابن السيد البطليوسي وأحسن شرحه.
وقال ياقوت في معجم الأدباء الجزء الثالث ص 154 في معرض الكلام على مؤلفات أبي العلاء:... ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وأبياته ثلاثة آلاف.
هكذا تواترت أقوال القدماء الذين أرخوا لأبي العلاء، حتى استقام في أذهان المحدثين أن سقط الزند ليس ذا شان يؤبه له في آثار المعري ما دام من نتاج صباه... وما دام المعري نفسه لم يكن يأبه لهذا الديوان، كما توهمنا مقالة أبي زكريا التبريزي.
والحقيقة أن المعري كان يحتفل لديوانه هذا احتفالا ظاهرا. يدل على ذلك أنه عني بشرح الغريب من ألفاظه وجعل هذا الشرح في كتاب خاص سماه ضوء السقط وقد تحدث ابن العديم عن هذا الكتاب فوصفه بأنه يشتمل على تفسير ما جاء في سقط الزند من الغريب، مقداره عشرون كراسة، وضع أي المعري هذا الكتاب لتلميذه أبي عبد الله محمد بن