بأحدهما ولا نتأذى بالآخر، أو كان الأذى عنه يسيرا جدا، علمنا أنهما في السهولة على السواء ومتقاربين ولما كان الوسط بين طرفين، وكان قد يمكن أن يوجد في الأطراف ما هو شبيه بالوسط، وجب أن نتحرز من الوقوع في الطرف الشبيه بالوسط.
وفات الفارابي أن الأحكام العقلية هنا، سواء على الفعل أو وسطه الأخلاقي، قد لا تستوي لدى جميع الأفراد في إشكالاتهم على الوسط مهما تفاوتت درجاته وتباينت أوضاعه. ومن هنا فليس للانسان، من الناحية النظرية على أقل تقدير، إلا أن يحسم القول بان الوسط فعل اختياري، وكل فعل اختياري لا يتم في ظل المدرسة المعيارية في علم الأخلاق إلا بسبيل العقل، بعيدا عن تأثيرات المحسوسات وما تقود إليه من ضلالات!
وليس في موقف الفارابي هذا ما يضاد الرأي الذي نراه، ولكننا نعود لنؤكد ثانية أن الإنسان لا يمكن له أن يستحيل إلى عقل خالص فحسب، دون أن تحتويه تكامليته النفسانية في اختيار الفعل الذي يريد وتلك مشكلة قامت في الأخلاق والفلسفة، تنازعتها التكاملية من جهة، والثنائية من جهة أخرى، وبقيت حتى عصرنا الحاضر تمثل موقفا من مواقف الفكر الإنساني بكل صوره ومفارقاته... ونحن أميل إلى التكاملية منا إلى الرأي الآخر!...
وعود على بدء، فالناس في رأي الحكيم يختلفون فيما بينهم: فهناك من له جودة الروية وقوة العزيمة، ويمثل هذا الجانب الإنسان الحر. أما من افتقر إليهما أو إلى العزيمة بالذات، فهو الإنسان العبد بطبعه!... ويتميز الأحرار هنا بأنهم: متى أرادوا أن يسهلوا على أنفسهم فعل الجميل وترك القبيح باستعمال اللذة والأذى، فان الأخفى منها والأظهر عندهم بمنزلة واحدة باعتبار أن بعض اللذات أعرف لنا، ونحن أشد إدراكا لها، وبعضها الآخر أخفى ونحن أقل إدراكا لها، سواء في الطبع أو العاقبة.
وجودة التمييز تتفرع في هذه المرحلة إلى صنفين: صنف ينبغي أن يعلم وليس شانه أن يفعله إنسان في الوجود، وصنف شانه أن يعلم ويفعل مع تلازم فيه بين العلم والعمل معا وهذا الأخير يحصل لنا بصنائع تكسبه علم ما يعمل والقوة على عمله، ويتصف بان له قصده الإنساني الذي يتمثل بثلاث شعب هي: اللذيذ والنافع والجميل والنافع، إما ينفع في اللذة وإما ينفع في الجميل. فالصنائع إذن صنفان أيضا: صنف مقصوده تحصيل الجميل، وصنف مقصوده تحصيل النافع.
ويقرر الفارابي هنا أن الصناعة التي مقصودها تحصيل الجميل فقط هي التي تسمى الفلسفة أو الحكمة على الاطلاق وأن الجميل هذا يتفرع إلى قسمين:
أعلم فقط، وهو الفلسفة النظرية وتشمل موضوعات التعاليم والطبيعة وما بعد الطبيعة.
ب علم وعمل، وهو الفلسفة العملية والمدنية والسياسية.
ويمسك الفيلسوف، في ضوء هذا التقسيم، بالصنف الذي تصدر عنه الأفعال الجميلة والقدرة على أسبابها، بحيث تعود هي قنية لنا، وينعتها الفارابي ب الصناعة الخلقية مؤكدا أن الطريق إليها يمر عبر الفلسفة، والفلسفة تحصل بجودة التمييز، وجودة التمييز تحصل بقوة الذهن على إدراك الصواب. ولا يتحقق الأمر الأخير إلا بوسيلة أخرى تتخذ آلة لهذا الغرض، وتسمى صناعة المنطق.
فعلم المنطق، في هذا التنظير، صناعة تتقدم على غيرها من العلوم بالأولوية، لأنها سلاح للتمييز بين ما هو صادق وكاذب. والعقل الإنساني آلتها وسبيلها، وبها ينال كماله المطلوب والمرغوب فيه، باعتبار أنها تفيد الحكم بصواب ما يعقل، والقدرة على اقتناء الصواب فيما يعقل.
والمنهج السالك هنا يفرض على دارس الفلسفة أعني الباحث عن سعادته الحقة أن يتسلم مقدمات قبل البدء بصناعة المنطق، لأن بين هذه المقدمات وعلم المنطق علاقة شبه. ويقصد الفيلسوف بهذه المقدمات صناعة النحو من حيث أنه يفيد العلم بصواب ما يلفظ به، والقوة على الصواب منه بحسب عادة أهل لسان ما. لذا يجب أن تتحقق في المنهج الكفاية من التنبيه على أوائل هذه الصناعة، ومن ثمة الولوج إلى دراسة هذا العلم الذي يقوم الذهن، ويقود في النهاية إلى اقتناء الفلسفة الصادقة التي هي الهدف الأصيل للانسان السعيد!...
يقول الفارابي: ولما كانت صناعة المنطق هي أول شئ يشرع فيه بطريق صناعي، لزم أن تكون الأوائل التي يشرع فيها أمورا معلومة سبقت معرفتها للانسان، فلا يعرى من معرفتها أحد، وهي أشياء كثيرة. وليس أي شئ اتفق منها يستعمل في أي شئ اتفق من الصنائع، لكن صنف منها يستعمل في صناعة، وصنف آخر في صناعة أخرى فلذلك ينبغي أن نحصل من تلك الأشياء ما يصلح لصناعة المنطق فقط. والذي يصلح لهذه الصناعة، في رأي الفيلسوف، هو الألفاظ المنطقية الدالة. لذا وجب أن نأخذ من صناعة النحو مقدار الكفاية لغرض الإفادة من تلك الصناعة فحسب.
وفي مثل هذه المرحلة نكون قد بلغنا السبيل التي ستقودنا إلى السعادة المرغوبة التي من أول مراتبها تحصيل صناعة المنطق وآخر غاياتها بلوع القدرة على تأمل الخير المطلق، وتلك هي نهاية شوط العقول في اقتناصها المعرفة العرفانية التي تريد!.
2 هوية الكتاب:
في تحقيق هوية التنبيه على سبيل السعادة نحو من الاطمئنان، حيث أشار إليه ابن أبي أصيبعة ت 668 ه في كتابه الموسوم عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحت عنوان: رسالة في التنبيه على أسباب السعادة...
ويذكره صلاح الدين الصفدي ت 764 ه في كتابه الوافي بالوفيات تحت عنوان التنبيه على أسباب السعادة. وأقدم إشارة إليه أوردها عبد اللطيف البغدادي ت 629 ه في إملاء سيرته الموسوم الإفادة والاعتبار حيث نعته ب التنبيه على سبيل السعادة... وأورد القفطي ت 646 ه في كتابه إخبار العلماء باخبار الحكماء اسم كتاب في السعادة الموجودة لعل المقصود منه كتاب التنبيه ويرد بذات الاسم كذلك في فهرست مكتبة الأسكوريال بإسبانيا.
ونحن، من حيث عنوان الكتاب، أكثر ميلا إلى اختيار لفظة سبيل بدل أسباب، وقد استوحينا ذلك من طبيعة النص الداخلي من جهة، وما ذكرته بعض نسخه المخطوطة التي أشرنا إليها في كتابنا الموسوم مؤلفات