فقد قال الشيخ حبيب الكاظمي في حمد نفسه:
برميش كيف أوطأت العدى * ضمر الخيل فنكست النظاما فهل النظام الذي كان قد أعوج وفسد في رأي الشيخ علي مروة ثم أصلحه وقومه حمد المحمود هو الجيش النظامي كما قصد بذلك الشاعر الكاظمي أم هو النظام العام للحكم؟ الأغلب أن المقصود هنا هو نظام الحكم، وأن كلا من الشاعرين استعمل كلمة النظام في معنى غير الذي استعمله فيه الآخر.
وأيا كان مقصود الشاعر فإننا نلمح هنا شيئا جديدا في شعر شعراء هذه الفترة من التحدث عن الأمور العامة في معرض المدح وربط مصائر جبلهم بمصائر البلاد الشامية، والإشارة إلى الفساد وتقويم الاعوجاج مما لا عهد لنا به في شعر الفترات السابقة.
ولا شك أن هذا كله ناتج عن تنبه الأذهان بما حركته الحملة المصرية في النفوس وما أتت به من آراء جديدة وتصرفات حديثة لم تكن معهودة من قبل.
وسواء كانت الثورة على الحكم الإبراهيمي ثورة ظالمة أو كانت محقة، فإننا لا نستطيع أن نسلم مع الشاعر بان النظام كان قبل الحملة المصرية صالحا، وإنه عاد بعدها أكثر صلاحا.
صورة عن البلاط الحمداني وبعد الأبيات المتقدمة يخص الشاعر ممدوحه ببيتين من الثناء الشخصي التقليدي فلا حاتم مثله ولا الأحنف، ثم ينتقل إلى اللون الجديد من المدح المرتكز على العمل العسكري والانتصارات الحربية:
لم يبغه أحد ينازله * إلا موارد حتفه وردا فهنا منازلة تنتهي بموت العدو، وقد انتهت بذلك فعلا ولا بد من تعداد المعارك التي خاضها حمد، ونازل فيها عدوه:
فاسال رميشا حين باكرها * بالغارة الشعوا وسل صفدا واسال بروجا زلزلت وهوت * من عكة لما أن احتشدا خرت له في الحال ساجدة * والسور تعظيما له سجدا والنصر وافاه بناصرة * وانحل ما القاضي بها عقدا خابت مساعيه ومامله * إذ لم يصب من أمره رشدا أمست أنوف القوم مرغمة * مذ أنجز الاقبال ما وعدا نحن نحس هنا أننا أمام شاعر من شعراء سيف الدولة يتحدث عن معاركه ومنازلها ووقائعه وأماكنها. ويتمدح بانتصاراته وهزيمة عدوه. ويحدد لنا خطة سير البطل. فمن سهل رميش حيث وقعت وقعة جلى ثبتت إقدام الممدوح، إلى اجتياز حدود الجبل نحو فلسطين حيث سلمت صفد ثم مواصلة الزحف إلى عكة حيث استقبلت الزاحفين ببروجها ولكن البروج زلزلت وهوت أمام الحشد العاملي المتقدم، وسجدت وسجد معها السور الشهير الذي رد نابليون خاسرا، سجدت مع سورها تعظيما للمنتصرين ويا له من سجود ذليل...
ثم التقدم من عكة إلى مدينة الناصرة، فمن نصر إلى نصر... وهنا يشير الشاعر إلى حديث نجهل تفاصيله، ولا بد أن قاضي الناصرة قد دبر أمرا لافساد تقدم الفاتحين، ولكن الفاتحين حلوا ما عقده، وأكملوا خطواتهم إلى الإمام. وهنا تكون المهمة المعهود تنفيذها إلى حمد قد تمت كلها فليس بعد فلسطين غير الانسحاب الإبراهيمي التام وعودة الجيوش من حيث أتت.
وبذلك تكون أنوف القوم قد رغمت وهل بعد هذا من حديث؟...
هذه صورة مصغرة لمشهد من مشاهد البلاط الحمداني كما قلت من قبل تتمثل هنا في هذا البلاط الصغير، يعرضها لنا، لا شاعر حمد الأول، لا متنبي البلاط الوائلي، بل واحد من شعراء الصف الثاني الذين رأينا أشباههم في بلاط سيف الدولة. أما متنبي هذا البلاط فلنا أن نقول إنه الشيخ حبيب الكاظمي، ويمكن أن يقال أيضا إنه الشيخ علي سبيتي، وهما ممن سيرد ذكرهما في الآتي من القول.
الشيخ حبيب الكاظمي (1) لم يكن هذا الشاعر عاملي الأصل، بل هو من أصل عراقي كاظمي وفد إلى جبل عامل وفيه تفتحت شاعريته ونضجت موهبته وصار واحدا من شعراء عهد حمد المحمود. وكانت حياته ترتكز على الشعر فقد يمدح الأضداد حين يرى أن ذلك أكثر فائدة له. وقد تقدم القول أن صلته بحمد كانت قبل أن يتألق نجم حمد، لذلك، رأينا حمدا يدنيه إليه بعد أن صار أمره إلى ما صار من التفرد بحكم جبل عامل والسيطرة عليه. ولكن حاله هذه لم تكن دائما مستقرة، بل كان يمازجها نفور بينهما يعاتب فيه الشاعر حمدا أحيانا، ويستعطفه أحيانا، وإذا جاز لنا أن نقول إنه كان في بلاط حمد أشبه بالمتنبي في بلاط سيف الدولة، جاز لنا أن نقول إن قصيدته النونية في عتاب حمد تكاد تشبه قصيدة المتنبي الميمية في عتاب سيف الدولة. فيبدو أن نبوة حدثت بينهما سببها كما نفهم من القصيدة ما اعتقده الشاعر من إهمال حمد له وعدم تحقيق رغباته، فلم يتورع عن مهاجمة حمد والثناء على خصمه وقريبه حسين بك السلمان يقول في مطلعها:
يا بيك عند للعتاب لسان * فيه لغيرك صارم وسنان وبعد التعريض بالشعراء الآخرين الذين يفدون إلى حمد فيحسن عطاءهم دون أن يحسنوا الشعر بزعمه وكيف أن نصيبه الحرمان:
لهم الغباوة والفسالة والعطا * والفضل لي والمدح والحرمان وبعد أن يسترسل في ذلك قائلا أمثال هذا:
فاصح ما ألفيت أن وعودكم * مثل السراب ومثلي الظمآن تغري بنا الأوهام في أطماعها * حرصا على الموهوم وهو عيان فالله يجزي عنكم أوهامنا * خيرا وجاد شبابها الريعان ثم يعترف بما في المدح من غضاضة:
لكم بها حسن الثناء مؤبدا * ولنا بهن مذلة وهوان ثم يلمح إلى ما يبدو أن حمدا قد اعتذر به من اضطراره لمسايرة الآخرين معتمدا على صداقة الكاظمي:
ورسمت أن تقربي لك باعث * قطعي صدقت وفي النوى الرجحان فليشكر الرحمن من هو عنكم * ناء ويغني عنكم السلوان