أم للسميد بلحم الني منجبلا * ورب واضع زيت فيه يكرمني فهو هنا يسخر من هذه الأطعمة الشعبية العاملية ويخص بالسخرية الكبة النية متهكما على هذا الذي يرى أن في وضع الزيت على الكبة إكراما للضيف.
ولعل في الجيل الحاضر من يجهل بعض هذه المأكولات التي انقرضت فيما انقرض في القرى، والتي أدركناها نحن وتذوقناها واستطبنا بعضها.
وإذا كنا نسامح شاعرنا على ما فرط في حق الجبل مقدرين الظروف التي قد تكون هي التي أثارته فانفلت لسانه بما انفلت به. فإننا نود لو استطعنا أن نذكره بان هذه الأطعمة التي تحدث عنها لم تكن حتما هي كل ما تناوله على موائد الجبل، بل نحن على يقين بأنها لم تمر عليه إلا لماما، وإنه إنما تذوقها مستطلعا، وإلا فأين هي موائد حمد البيك وحسين السلمان وتأمر السلمان وعلي الأسعد والسيد محمد الأمين التي كانت ولا شك هي الموائد التي عرفها أكثر مما عرف غيرها، والتي لم تشهد لا الترمس ولا البلوط ولا البليلة ولا بقلة الفول ولا البربورة.
على أن شاعرنا الذي قال ما قال في ساعة غضب ونقمة هو نفسه الذي قال غير هذا القول في غير ساعات الغضب وساعات النقمة، وهو نفسه الذي يقول عن جباع ومواقعها ومياهها:
أبا الفردوس وجدك أم جباع * وفي كلتيهما تهوى الخلودا ولو كنت المخير في خلودي * فعن جبع وحقك لن أحيدا أأعدل بالمشارع ما سواها * وقد أخذت على الصفو العهودا وقد شهدت برأس العين عيني * غصونا خلتها حملت عقودا وبعد أن يثني على المكان ما شاء له الثناء، يتمم ثناءه ليشمل السكان:
ولا برحت بال الحر تسمو * دعائم للمكارم لن تميدا وإننا ونحن ممن يأخذون بالقول المأثور: الحسنات يذهبن السيئات، نرى أن بيتا واحدا من أبيات هذه القصيدة يمحو كل سيئات القصيدة السابقة فكيف بحسنات قصيدته الأخرى الحائية الفائقة التي أبرزته على حقيقته حين أرسل نفسه على سجيتها فأطنب ما شاء له الاطناب في الحنين إلى جبل عامل بعد فراقه له والثناء على أهله والتغني بلبنان مما لم يلحقه فيه لاحق. وإننا نورد القصيدة كلها كما هي فهي خير دليل على ما طبعت عليه نفس هذا الشاعر من وفاء أصيل ونفس كريمة:
سامر يلحو وأشواق تلح * هاجها من ظن أن العذل نصح نهب الصبر إدكاري سرحة * عند لبنان لها في القلب سرح لست أنساها ليال سلفت * ألف صبح لي بها والدهر صلح وشموس الراح تجلى كلما * غاب صبح قام يجلو الكاس صبح ومغان نقلت عنها الصبا * خبر الند وفيه طال شرح فضضت جيد الربى أزهارها * وعليه من سقيط الطل رشح نقط الطل على أوراقها * وله في الرمل أسقاط وطرح يغمز الدهر علينا طرفه * وبعينيه لعين النجم طمح نحن والورق اقتسمنا لهونا * فلنا شطح وللورقاء صدح كلنا في الغصن إلا أننا * ما علينا لو نروم الوصل جنح فإلى كم ومنائي عهدها * يثبت العزم وكف الحظ تمحو ليث شعري، والأماني سلوة * هل لها وصل وهل للهم نزح يا أوداي بسفحي عامل * إن شوقي عامل والدمع سفح هل وفى بالعهد من بعدكم * مدمع سح وقلب لا يصح هاكم دمعي فقد أشهدته * وله من الخد تعديل وجرح من لمشتاق لكم من بعدكم * بات ساهي الطرف والشوق يلح فكرة تمضي وتأتي فكرة * والدجى إن يمض جنح يأت جنح حارب الجفن الكرى ليتهما * عرفاني هل يرى للسلم جنح لا رعاني المجد إن لم يرني * ولخيلي في ربى لبنان سبح ومن القبلي من شاطئه * خبر المجد وعندي فيه شرح برجال لم يثنهم لو ولا * فيهم يلفى بغير العرض شح آل همدان هم لا غيرهم * وكفاهم من أمير النحل مدح قد أبت إلا المعالي مسلكا * ولهم في متجر الايمان ربح كم لهم في الدين من سابقة * ساقها أيد من الله ونجح كلما استنصرها داعي الهدى * جاءه نصر من الله وفتح بين حمد وسيف الدولة قلت إن بلاط حمد كان أقرب إلى أن يكون بلاطا حمدانيا. وقلت إن متنبي هذا البلاط هو الشيخ حبيب الكاظمي ويمكن أن يقال إنه الشيخ علي سبيتي.
ولكن إذا أخذنا ما كان بين الكاظمي وحمد من ود عريق ثم من عتاب شديد ثم من تنافر عنيف، كانت حياة الكاظمي عند حمد هي الأقرب إلى الشبه بحياة المتنبي عند سيف الدولة. وقد رأينا فيما تقدم صورا من التواصل والتقاطع، وسنرى هنا صورة أوضح للصلة الوثيقة بين الرجلين: الأمير والشاعر، هذه الصورة التي تعيد علينا بعض مشاهد الماضي بين سيف الدولة وشاعره المتغني بوقائعه، الواصف لمعاركه.
فقد ساقت الأقدار حمدا ليكون من بين أسرته مشاركا في أضخم أحداث عرفها عصره، أحداث مصيرية في حياة الدولة، وأن تكون مشاركته مشاركة عملية فعالة، قاد فيها الجيوش وحمل السلاح وقاتل وانتصر.
وهنا يبرز الشبه من جديد بين الأميرين الحمداني والوائلي، بعد أن برز الشبه بينهما في الشاعرية واحتضان الشعراء. ثم يبدو الشبه أكثر بروزا في تباري شعراء حمد بوصف معاركه، كتباري شعراء سيف الدولة في وصف معاركه. وهنا يبرز متنبي حمد بقصيدته الميمية، التي لا تطاولها في قصائد شعراء حمد إلا قصيدة السبيتي الميمية أيضا. ومن هنا كانت حيرتنا في أي من الشاعرين يمكن أن يكون متنبي هذه البلاط.
يبتدئ الكاظمي قصيدته ابتداء ضاحكا ممتلئا حبورا، ولا بدع فان الفوز كان جديرا بان يوحي بذلك، ويجيء الاستهلال لا مجيئا غزليا، بل مجيئا مستلهما من طبيعة الحياة الجبلية العاملية التي لا تشكو شيئا كما تشكو فقدان الماء النابع، والتي لا تبشر بشئ أحلى عندها من أن تبشر بهطول المطر بعد الانحباس. ويختصر الشاعر هذه البشري بشطر واحد ينتقل بعده رأسا إلى الدعوة للأخذ بما تقتضيه البشرى من البهجة والانشراح:
بشرت بالمزن أرواح النعامى * فأجل لي الكاس على أيدي الندامى