وليس من الضروري أن تكون هذه الكاس من الراح، والشاعر ممن لا يشربونها لا هو ولا نداماه، بل يكفي أن تكون كأسا من الشاي في مجلس أنيق. ولا يطيل الشاعر في ذلك بل يمضي مسرعا إلى التمدح بحمد:
وطوى البشر الأماني إذ وطا * حمد البيك من الظهر السناما قد شكا السيف الظما حتى ارتوى * وانحنى عود القنا حتى استقاما واطئ الهام احتكم فيها بما * تنصف الحكمة في البين احتكاما ودع الحكمة تعطي قسمها * للظبي هاما وللتيجان هاما برميش كيف أوطأت العدى * ضمر الخيل فنكست النظاما إذ لوى مير اللوا عنه اللوا * والتوى كالظبي يحتل الأجاما بفلسطين جيوش حشدت * قدت بالحزم لها جيشا لهاما وعلى الأردن منك انتفضت * ردن الموت هجوما واقتحاما كم شفى سيفك قلبا موجعا * في شفا عمرو وأحييت رماما ويمضي في قصيدته على هذا المنوال حتى يختمها بنفس الشطر الذي افتتحها به:
لم يزل ذكرك يعلو كلما * بشرت بالمزن أرواح النعامى الشيخ علي سبيتي (1) هذا الرجل من أفذاذ جبل عامل المتميزين. ولم يكن الشعر صفته الغالبة عليه، بل كان إلى جانب شاعريته على مشاركة طيبة بعلوم اللغة وبالتاريخ.
ووصف في كتاب أعيان الشيعة بأنه: نحوي بياني لغوي شاعر كاتب مؤرخ. كما وصف بصفات خلقية أخرى منها أنه مصارح بالحق غير مداهن، وأنه حسن النادرة ظريف المعاشرة.
لقد كان اتصال السبيتي بحمد المحمود ثم بعده بابن أخيه علي الأسعد اتصالا وثيقا.
على أن المؤسف أن ليس بين أيدينا من شعره إلا النزر اليسير مما لا يتعدى قطعة من قصيدة نظمها استجابة لطلب حمد المحمود في مدح السلطان عبد المجيد، وأرسلت إليه. نظمت عن لسان حمد نفسه وأديت باسمه لا باسم ناظمها ويمكن أن تكون قد نظمت بعد عزل حمد، وكان نظمها وإرسالها من الوسائل التي توسلها حمد للتقرب من الدولة ليعود إلى ما كان عليه من الحكم والتسلط كما أنه يمكن أن تكون قد نظمت بعد الانتصار على جند إبراهيم باشا، وقدمت للسلطان تدليلا على ما قام به حمد وإشارة إلى بلائه في تلك الوقائع. فمما حفظ من تلك القصيدة:
لنا يوم الحبيس وأي يوم * منعنا شوس مصر أن تناما وقبلا يوم حمص لو ترانا * أثرنا نقع حرب قد أغاما نصبنا المجد حتى أن قوما * بظل فخارنا ضربوا الخياما وكم يوم عبوس قمطرير * عقدنا فوق هامتهم قتاما سننا كل نعمى في البرايا * بأعناق الملوك غدت وساما وغبرنا لكسرى أي وجه * بعدل مليكنا فسما وسامى قضى دين المفاخر والمعالي * وأيقظ عدله قوما نياما ولا شك أن هذا الشعر هو من مظاهر الشعر العسكري العاملي الذي بلغ ذروته في عهد حمد.
على أن الشعر العسكري العاملي قد انتهى بانتهاء شعراء عصر حمد.
وكانت معارك حمد آخر المعارك التي يخوضها العامليون دفاعا عن جبلهم وصيانة لوجودهم. إذ أن الدنيا كانت قد تبدلت،.
السيد موسى عباس (2) وعلى العكس من الشيخ حبيب الكاظمي، الشاعر العراقي الذي عاش في جبل عامل، فان السيد موسى عباس شاعر عاملي نشأ وعاش في العراق وتوفي بالنجف. ويبدو مما ذكره صاحب جواهر الحكم أنه كان يكثر القدوم من العراق إلى الجبل ثم يعود إلى مقره، على ما كان في هذا الترحال من مشاق. وأن من عوامل تردده إلى الجبل هو ما كان يلقاه في بلاط حمد المحمود من إكرام تعززه مدائحه في حمد. فقد قال صاحب جواهر الحكم ما نصه: نشأ في العراق وقرأ الدرس ولكن تغلب عليه الشعر. زار أمراء جبل عامل مرارا ورجع إلى العراق ومدحهم باشعار كثيرة، وما قصروا عن نصرته.
على أنه ليس بأيدينا من مدائحه فيهم إلا ما مدح به حمد المحمود في قصيدة أشرك معه فيها بالمدح أخاه أسعد. وقصيدة أخرى، أشرك معه فيها ابن أخيه علي الأسعد. والقصيدة الأولى نظمها بعد وفاة أسعد، فلم يرد ذكره فيها إلا في بيت واحد منها، انتقل بعده إلى ذكر ولده علي في بيت آخر، ثم أجمل ذكر الآباء والأجداد في عدة أبيات، ثم استرسل في مدح حمد.
ومادة المدح هنا هي كما قلنا من قبل، وكما ساد في شعر شعراء عصر حمد هي: ذكر الحروب والوقائع والتغني بالبطولة:
هو ابن أبي الهيجاء مردي كماتها * وفارسها المعروف عند التصادم ولا بد من استثارة سجية الكرم في الممدوح:
هو الغيث قد عم الأنام مواهبا * هو البحر من جدواه فيض الغمائم على أنه يعطي نضارا وعسجدا * وذاك بغير الماء ليس بساجم وبعد الإشارة إلى العطاء والتصريح بالنضار والعسجد، يعود إلى ما صار الأصل في موضوع المدائح العاملية، يعود إلى المعارك وذكر الأبطال ونهب الأرواح وحومة الوغى:
ويا مورد الأبطال في هوة الردى * ويا تارك الأموال غنما لغانم ويا ناهب الأرواح في حومة الوغى * ويا تارك الأجساد طعم القشاعم وكم وقعة مشهورة لك في العدى * سرى ذكرها في عربها والأعاجم تركت بها الأبطال صرعى على الثرى * خواشع أشلاء بغير جماجم وكما أشرنا فيها تقدم فقد أصبح حمد حاكما على الجبل بإرادة حكومية، وأصبح ممثل الدولة فيه، مما لم يكن معروفا من قبل. وهنا نجد في هذا الشعر تعريفا جديدا لحمد، لم يكن يذكر في مدائح أسلافه، هو وصفه بالحاكم:
ويا حاكما بين الأنام بعدله * ويا منصف المظلوم من كل ظالم