قصائده ما لمحناه في شعر الحاريصي من العنفوان العسكري الصلب، على أن مدائحه تنصب في مضمونها على ما لممدوحيه من معارك ووقائع:
فلست ترى إلا سلاحا على الثرى * وخيلا بها فقر إلى كل راكب وأعجب شئ أن خمسين فارسا * تمزق ألفي فارس بالقواضب وهكذا يقول أيضا:
فثار إليه الجيش من كل جانب * فلست ترى إلا سيوفا عواريا ولست ترى إلا قتيلا وهاربا * ومنجدلا يشكو الجراح وعانيا وبينما هو على هذه الحال إذ تقع المحنة الكبرى بمباغتة أحمد باشا الجزار لجبل عامل وأخذه على حين غرة قبل أن تجتمع جموعه فيكون بذلك القضاء المبرم على قوة الجبل وحيويته وهنا يعود الشيخ إبراهيم يحيى شاعر تلك النكبة، نكبة البلاد بعامة، ونكبته هو بخاصة فنسمع منه شعر الرثاء والحنين والتوجع:
غرام وتشتيت وشوق مبرح * فلله ما يلقى الفؤاد المقرح فيا أيها الناؤون عني عليكم * سلام يمسي حيكم ويصبح تحية مشتاق يكني عن الهوى * حياء ولكن الدموع تصرح ويقول:
سقى الله هاتيك البلاد وأهلها * ملث الغوادي من لجين وعسجد ورد إلى أوطانه كل شاسع * يكابد ذلا بعد عز موطد ويقول وهو في العراق:
أشيم بروق الشام شوقا إليكم * وهيهات من دار السلام سام ويقول:
أكفكف دمع العين وهو غزير * وأكتم نار القلب وهي تفور وأنتشق الأرواح من نحو عامل * وفيها لمثلي سلوة وسرور منازل أحباب إذا ما ذكرتهم * شرقت بماء المزن وهو نمير خليلي أن الظلم طال ظلامه * فهل من تباشير الصباح بشير ويقول:
مضى ما مضى والدهر بؤس وأنعم * وصبر الفتى أن مسه الضر أحزم يعز علينا أن نروح ومصرنا * لفرعون مغنى يصطفيه ومغنم ويقول:
غريب يمد الطرف نحو بلاده * فيرجع بالحرمان وهو همول وهكذا يقدر للشيخ إبراهيم يحيى أن يكون شعره صورة الحياة العاملية في تلك الأيام بكل ما فيها من أرزاء وفواجع ودموع.
الشيخ محمد علي خاتون (1) ومن شعراء أواخر القرن الثالث عشر نذكر ابن قرية جويا الشيخ محمد علي خاتون، ويكفي هذا الشاعر أنه استوحى طبيعة بلاده في قصيدة جاءت كما نعبر عنه في هذا العصر ونطلبه من الشعراء وهو ذات وحدة في الموضوع. والواقع أننا نلمس تقصيرا بارزا في الشعراء العامليين في مختلف العصور، هذا التقصير هو أن طبيعة الجبل لم تكن مصدرا لالهامهم فلم يخص واحد منهم واديا من الأودية الجميلة ولا ذروة من الذروات السامقة ولا ثنية من الثنايا البديعة، ولا شيئا في هذا الجبل من زهر وشجر وورد ونبع ونهر، لم يخص واحد منهم شيئا من هذا بقصيدة أو مقطوعة. والذين وصفوا قلعة الشقيف مثلا إنما وصفوها عرضا وهم يمدحون أمراءها.
ولكن الشيخ محمد علي خاتون تميز بان وادي الحجير الجميل ونبعه وجدوله أوحت له بقطعة شعرية لم يدخل فيها إلا وصف وادي الحجير ونبعه وجدوله فقال:
هذا الحجير فرو منه غليلا * واحبس ركابك في رباه طويلا نهر يزول صدى القلوب بمائه * فاق الفرات محاسنا والنيلا واد غدت فوق الغصون بدوحه * تشدو البلابل بكرة وأصيلا إن ضل قاصده الغداة طريقه * كان الأريج به عليه دليلا واد سقته المعصرات وأمطرت * فيه الهتان المرزمات سيولا فلكم أقمنا للشباب بظله * أودا وكم فيه اتخذت مقيلا والروض باسمة هناك ثغوره * جر الندا من فوقهن ذيولا إننا نرى في هذه الأبيات دليلا على تحسس الشاعر بما حبا الله بلاده من جمال طبيعي، وإذا عرفنا أن نهر الحجير هو جدول يجري شتاء ويستمر حتى أواخر الربيع ثم ينضب، إذا عرفنا ذلك عرفنا شغف الشاعر ببلاده إلى حد جعل عنده شبه النهر فيها يفوق بمحاسنه الفرات والنيل.
على أن من أصدق ما في هذه الأبيات، قوله:
واد سقته المعصرات وأمطرت * فيه الهتان المرزمات سيولا فتدفق وادي الحجير إنما يكون إذا سقته المعصرات، وأمطرت فيه المرزمات.
والشيخ محمد علي خاتون هو مع غيره حصيلة النهضة الشعرية الجديدة التي تمخضت عنها البلاد بعد انجلاء غمة الجزار وزوال ذاك الكابوس المخيف الذي لم يبق ولم يذر، والذي قضى على المدارس والمعاهد وعطل فيما عطل الدراسات وشرد العلماء وغير العلماء.
الشيخ صليبي الواكد (2) وفي هذا القرن يبرز الشيخ صليبي الواكد المعروف بأبي واكد الذي ينتمي إلى أسرة حمد نفسها والذي كان يسكن في قرية قانا.
ومن المؤسف أنه لم يصلنا من شعر أبي واكد إلا القليل، بل ما دون القليل، وهو كل ما عثر عليه في بعض المجاميع الخطية القديمة، ولا شك أن لهذا الشاعر شعرا كثيرا ذهبت به الأيام. وما وصلنا من شعره يمثل فنا لطيفا من فنون الشعر هو فن الإخوانيات ولكنه إلى ذلك يدلنا على الكثير من العادات والأوضاع والصلات التي كانت تسود المجتمع العاملي.
عاش هذا الشاعر في عصر حمد المحمود المعروف بحمد البيك (3) والمكنى بأبي فدعم والذي كانت تبنين له مقرا. وأرسل حمد البيك في أحد الأيام إلى قريبه أبي واكد أجراس أسبر ليضعها عند الصائغ مخول في قانا فلما تمت