فغض الطرف أنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا فلو وضعت ثياب بني نمير * على خبث الحديد إذا لذابا وأمثال:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا * ولو سلكت سبل المكارم ضلت السياسة من حال إلى حال في هذه الفترات كانت الأحوال السياسية في الجبل تتحول من حال إلى حال، ثم من هذا الحال إلى حال آخر، كانت جيوش إبراهيم باشا قد دخلت البلاد، وكان الأمير بشير حليف الفاتحين، فضموا إليه فيما ضموا جبل عامل وكانت له ثارات على العامليين وكان يحقد عليهم كل الحقد فزال عن الجبل ما كان له من تميز خاص وغدا تابعا لا سلطة لأمرائه، ولا سيادة لأهله، وتطور الحكم الجديد فغدا قاسيا عنيفا حاقدا، ومضى بلا خبرة له في حقائق الأمور فلم يحسن معالجتها، وقامت ثورة حسين بك الشبيب، وأخوه محمد علي بك الشبيب سنة 1836 م متحدية الحكم البشيري ومن ورائه الحكم الإبراهيمي واستطاعت أن تحقق نجاحا أول الأمر، ثم توارى زعيماها وانتهى أمرهما على أسوأ حال. فعانت البلاد ضغطا فظيعا، وقاست بلاء شديدا. وكان فيها مجموعة من الشعراء المجيدين، ولكننا لا نسمع لهم صوتا يدل على أنهم تبنوا شكوى الجبل وحملوا أحاسيسه.
موقف الشعراء؟
ما ذا؟... أخالوا رسالتهم الشعرية وانفضوا عن مجتمعهم الجريح غير مبالين بما يتعالى من أنين فيه، وغير مساهمين بما يتلظى فيه من حماسة مكبوتة؟
الواقع أنه ليس في أيدينا من شعر تلك الفترة ما يدل على أن شعراءها قد شاركوا في شئ من شجون الجبل، أو أنهم كانوا صدى لما يعتمل في نفوس أبنائه... فما ذا يعني ذلك؟ أن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الشعراء ليسوا من رجال الشدائد، ولا هم ممن يجازف في نقمة عارمة ربما عادت على أصحابها بالشر العميم. ولذلك آثروا السكوت والانزواء.
ولكنا نلاحظ في نفس الوقت أن لا شعر لهم في الحكام الجدد، وأن ليس في أيدينا ما يدل على نوع الصلة التي كانت تربط هؤلاء بهؤلاء، ويكفي ذلك لأن نحمد للشعراء موقفهم، فهم إذا كانوا لم يساهموا في النقمة بشعرهم فإنهم لم يتملقوا الحاكمين ليكسبوا المال على حساب ظلم شعبهم واهتضام جبلهم، ليس في أيدينا شعر يدل على مدائح سطرت في الثناء على السلطات الجديدة.
وهكذا نجد أننا نفتقد كلا النوعين من الشعر شعر الثورة وشعر الخنوع...
فعلى أي شئ يدل ذلك...
لعل الشعراء قد شاركوا في النقمة بشعرهم، ولكن ظل هذا الشعر همسا لا يتعدى الجدران الخصوصية، ثم تمزق لطول ما استخفى.
ولكي نكون منصفين نقول أيضا: ولعل الشعراء لم يكونوا ثائرين، بل كانوا في الصف الآخر يتملقون الحاكمين، ثم لما انطوى علم هؤلاء وفاز خصومهم أخفى الشعراء شعرهم وأضاعوه.
من المؤسف أن لا يصلنا شعر يرجح أحد الرأيين، ومن الأكثر أسفا أن لا تحوي مجاميعنا شعرا كان يمكن أن يكون لو وجد من أغنى الشعر وأكثره لذة وجدوى.
حمد المحمود (1) كان زعيم الجبل يومذاك حمد البيك أو حمد المحمود وهو رجل من أنبغ من أنجبت أسرته. كان فارسا مقداما، وكان أديبا شاعرا. وتلقى حمد الحكم الإبراهيمي الجديد بأسى عميق، لقد أفقده سلطته، وغدا ظلا لا حول له ولا طول. ورأى فشل ثورة الشبيبيين فاثر الصبر، ولما لاحت له الفرصة ذهب يغتنمها، فقد أقبلت الجيوش العثمانية تطارد المصريين ووصلت طلائعها إلى حلب، وتحرك الأسطول الانكليزي بجبروته في البحر المتوسط، فاستصرخ حمد قومه فلبوه وزحف بهم ليلاقي الأمير مجيد الشهابي على جسر القاقعية فيهزمه ويمضي حيث يلتقي بالجيوش العثمانية في حمص ويخوض معها معاركها كلها على المصريين، ويعجب به القائد التركي عزت باشا فيعينه حاكما على جبل عامل ويطلب إليه أن يطارد المصريين في قلب الجبل وأن يتقدم إلى فلسطين، ويمضي حمد لما أودع إليه، فيلتقي بجيوش إبراهيم باشا في سهل رميش ثم في وادي الحبيس ثم في صميم فلسطين في شفا عمرو، ثم يحتل صفد ويمضي فيستولي بعدها على طبرية وعكة والناصرة وغيرها.
هنا في ساعات النصر يبرز الشعراء ملتفين حول حمد، مندفعين في تهنئته والإشادة بانتصاراته والتغني بأمجاد الجبل. وحمد كما قلنا إلى جانب مكانته، كان شاعرا. فاجتمع للشعراء: أمير تشوقه المدائح، وشاعر يفهم ما يقولون، وأمجاد مغرية بالمدح. فالتقى في قصر حمد مجموعة من الشعراء لم يلتق مثلها إلا في قصور الملوك السالفين.
ويخيل إليك وأنت تراجع شعر تلك الفترة أن حياة مصغرة لسيف الدولة الحمداني قد انبعثت في الجبل... وإذا كانت مدائح شعراء سيف الدولة تظل غير ممجوجة لأنها في جوهرها إشادة بانتصاراته على الروم، وتغن بالوقائع العسكرية العربية، وملاحم شعرية رائعة فكذلك هي مدائح شعراء حمد المحمود الوائلي، وكما كان سيف الدولة شاعرا ذواقة فكذلك كان حمد، وكما كان الأول فارسا مقداما فكذلك كان الثاني... وإذا كان ما بقي من أوراق تلك الفترة لم يسجل لنا مقادير العطايا، كما سجلها عصر سيف الدولة، فلا شك أن عطايا حمد كانت غير قليلة، لا سيما وقد أصبح الحاكم المطلق في البلاد، منصوبا من الدولة التي قدرت له موقفه فأطلقت يده في الجبل، وككل حاكم مطلق ينطلق في اجتناء أكثر ما يستطيع من المكاسب، انطلق حمد، فكان المال موفورا، واليد مبسوطة. فازدهر الشعر ازدهارا يعز مثيله وشهد جبل عامل عصرا ذهبيا للشعر.
وإذا كنا قد عرفنا الكثير من وقائع حمد، فإننا لم نعرف الكثير من شعره، فلم يكن يعني على ما يبدو بتدوين شعره، لأنه كان في شاغل عنه، شانه في ذلك شان سيف الدولة الذي لم يصلنا إلا القليل من شعره.
وكل ما لدي الآن وأنا أكتب هذا الكلام من شعر حمد هذان البيتان الغزليان اللذان قالت مجلة العرفان إن محمود باشا الشلبي رواهما لشبيب باشا الأسعد وأنه وجدهما في مجموع مخطوط (2):