وأرسلها إلى حمد البيك لم يستحسنها لضعف أصواتها وخمود حسها فأرجعها إليه ثانيا ليعطيها إلى الصائغ ويحسن أصواتها. فلما تمت كما أراد حمد البيك أرسلها إليه وأرسل معها هذه الأبيات:
أفدي أبا فدعم إذ ظل يعذلني * من حيث أحمد حظي صوت أجراسي لا تعجبن لذا وأعجب لثانية * أن ليس يلحق بالأجراس أنفاسي هل ينكر البيك أعلى الله رتبته * سواد حظي وما يأتيه أنحاسي لو أن في جرسي القانون يردفه * مخارق بفنون الأوج والراسي بنغمة الناي والسنطير ملحقة * به النواقيس والصهباء في الكاسي لأسمع الحظ مني كل مستمع * صوت الذبابة قد طنت على الرأس فكيف بي وهو حظي كلما رفعت * يدي بشأن تولاها بانكاسي فالآن وافتك أجراس مطنطنة * تحكي النواقيس في راحات شماس قد أتقن الصنع منها عارف فطن * بصنعه خير حداد ونحاس فان تجدها كما تبغي صناعتها * فذاك من طالع الحداد في الناس وإن تكن تشبه الأولى فذلك من * حظي الذي قد رمى دوما باتعاسي فالمدح في صنعها أمسى لصانعها * والذم لي والكلام القارس القاسي يقول لله مخول وصنعته * كأنها ذهب قد صيغ في ماس أو لا يقال صليبي تهاون في * حسن الصياغة فهو الطاعم الكاسي ينال مخول فيها المدح إن حسنت * أو لا أبو واكد في الذم والياس والدلالة البارزة في هذا الشاعر هو أن الثقافة الأدبية كانت في جبل عامل شاملة أناسا من جميع الطبقات، وإذا كنا قد رأينا أن من مروا معنا فيما تقدم ومن سيأتون، هم من خريجي الدراسات الفقهية في المدارس المنتشرة في الجبل، أو ممن طمحوا إلى الأفضل فانتقلوا إلى النجف، فان ما يبدو من مظاهر ثقافة هذا الشاعر يدل على أن هذه الثقافة ليست فطرية بل هي نتيجة اطلاع ودرس وتتبع وفي ذلك ما يرشدنا إلى ما فعلته تلك المدارس من اجتذاب رجال من مختلف الطبقات، وإعدادهم إما للعلم أو للشعر والأدب، وفي الشيخ صليبي الواكد أفضل مثال.
وإذا كان لكل واحد من الشعراء العامليين مواضيعه وأسلوبه، فإننا نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن هناك قاسما مشتركا كان يجمع بينهم جميعا، هو أنه مهما كانت اتجاهات الشاعر، فإنه سيلتقي حتما مع غيره من شعراء عصره وما قبل عصره وما بعد عصره في نقطة معينة هي مدح علي بن أبي طالب وأهل البيت ع. وهذا ما نراه هنا في شعر صليبي الواكد الذي أقام في قرية قانا لم يبرحها، وإذا كان قد برحها فربما إلى تبنين أو صور ليس إلا.
وهكذا فإنه لا يتخلف عن النظم في هذا الموضوع لا الشاعر الفقيه سليل الفقهاء ولا الشاعر الوجيه سليل الوجهاء، وها هو أبو واكد يقول من أبيات:
يا آل بيت محمد لي فيكم * أمل إذا نصب الصراط أجوز أنتم نجاتي في المعاد وعدتي * وبكم إذا وضع الحساب أفوز وهكذا يلتقي في آل بيت محمد كل الشعراء العامليين على اختلاف ميولهم ومواضيعهم.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أنه إذا كان لقب الشيخ قد أطلق على من رأينا من الشعراء كما أطلق على الشيخ صليبي الواكد، فان هذا اللقب لا يدل على صفة واحدة فيهما، فان الأولين قد نالوه لأنهم رجال فقه ودين. أما أبو واكد فلأن أسرته الوجيهة كانت حتى ذلك الوقت تلقب بهذا اللقب تدليلا على وجاهتها، وأول تحول في اللقب جرى في هذه الأسرة كان ما جرى على عهد حمد المحمود قريب شاعرنا الواكد ومعاصره. فهو أول من استبدل لقب البيك بلقب الشيخ، وظل غيره من أقاربه المعاصرين يحملون اللقب القديم، ولذلك كان يطلق عليه أكثر الأحيان اسم حمد البيك كما أنه أول من اقتدى بالسلطان محمود فخلع الملابس القديمة وفي مقدمتها العمامة ولبس الطربوش والملابس الأوروبية الحديثة.
وفي شعر الشيخ صليبي ما يدل على بعض الأحداث في زمانه، فقد أدركنا نحن في مطالع حياتنا الصلة الوثيقة بين جبل عامل وحوران، فقد كان إدبار المواسم الزراعية في جبل عامل يحمل العامليين على النزوح خلال الصيف إلى حوران، كما أن إدبارها في حوران كان يحمل الحورانيين على النزوح إلى جبل عامل. والفرق بين النزوحيين كان في أن العامليين كانوا ينزحون أفرادا للعمل في موسم الحصاد. أما الحورانيون فكانوا ينزحون بأسرهم وأنعامهم، لأن في إدبار الموسم الشتوي في جبل عامل تبقى المواسم الصيفية وكرم التين والعنب، أما في حوران فقد كان الادبار معناه فقدان كل شئ لأنه لا أشجار مثمرة في حوران. وبالرغم من أن هذا التبادل في الادبار والاقبال كان يقتضي المؤاخاة ورفع الأضغان فقد كان على العكس من ذلك كثيرا ما يؤدي إلى التصارع والتقاتل. ويبدو أن شيئا من هذا قد حدث في عصر أبي واكد وأن حدوثه كان في حوران خلال النزوح العاملي فأغاظ ذلك شاعرنا فقال هاجيا حوران مشاركا في المعركة بشعره من بعيد، مستغلا الصفة البركانية السوداء لأحجار بيوت حوران:
أسائلهم لمن حوران تعزى * فقالوا للذئاب وللكلاب مرابعهم كلون القار سود * ودورهم على جرف الخراب فلم تسمع بها إلا نباحا * ولم تبصر بها غير الذباب ولا تلقى بها إلا كلابا * ولا تلفي بها غير التراب وكم آوى لنا منها جياع * فتقرى بالطعام وبالشراب ويغفر الله لشاعرنا هذا الهجاء المرير، وإذا كنا نجيز لأنفسنا نقله اليوم فلأن الماضي قد مضى بكل أحداثه فلا نزوح عاملي إلى حوران، ولا نزوح حوراني إلى جبل عامل، وقد تبدلت الدنيا، لذلك فنحن حين ننقل هذا الشعر لن نهيج شرا ولن نثير حدثا. وإنما نبسط لونا طريفا من ألوان الحياة في هذه البلاد، وقد كان يستطيع أي حوراني أن يرد على الشيخ صليبي هجاءه ويقول له: ونحن أيضا كم آوينا منكم غريبا، وكم أعملنا عاطلا، وكم قرينا نازحا... وأن الذباب في دياركم ليموج موجه في ديارنا، والتراب بين بيوتكم يتراكم مثله بين بيوتنا، والذئاب تعوي بدياركم عويها في برارينا، والكلاب الشاردة تسرح خلال منازلكم سرحها خلال منازلنا. والفرق بيننا وبينكم أن بلادكم أنجبت شاعرا استطاع أن يهجونا، وبلادنا لم تصل إلى ذلك.
ولعل في هذا الشعر ما يمكن أن يكون استمرارا للتهاجي العربي القديم بين القبائل مما كان يجعل الشاعر لسان قبيلته، ويجعل القبيلة معتزة بشاعرها حفية به، وما يعيد إلى أذهاننا أمثال: