نجاح الحركة هذه العبارة التي أوردها المؤرخ العاملي ترينا الموقف على حقيقته، ويبدو أن الوالي كان على شئ من الخير والإنصاف، أو أن الدولة قد أرادت كبح جماح حمد بعد أن رأت إدلاله عليها، أو أن الأمرين اجتمعا معا، فأصدر الوالي أمرا بعزل حمد من حاكمية جبل عامل. واختير لها رجل من الشعب من بلدة النبطية هو الشيخ حسين مروة، ولكن يبدو أن الاختيار لم يكن موفقا، إما لأن الرجل لم يكن كفء فطغى رجاله بدون علمه كما طغى السابقون، أو لأن السلطة مغرية للجميع حاملة لهم على الطغيان فطغى هو نفسه، فلم تتحقق أماني الشعب.
ولم يصبر حمد على الأمر طويلا واستطاع العودة إلى منصبه بعد ستة شهور من عزله ورجع إلى البلاد بموكب حافل زاخر.
ويبدو أن من عوامل نجاح هذه الحركة هو تدخل الحاج قاسم الزين وتوليه التحريض ثم قيادة المحتجين إلى مقابلة الوالي. وقد يظهر غريبا أن يشارك الحاج قاسم الزين في مثل هذا التحريض في حين أنه ليس ممن يمكن أن ينالهم أذى حمد، بل يمكن عدة من المتسلطين. ولكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن ذلك إنما كان لأن نزاعا قام بين آل الزين وبين حمد بسبب الشيخ علي زيدان، ويروي صاحب جواهر الحكم قصة هذا النزاع بما يلي: إن هذا الشيخ علي زيدان كانت بينه وبين بيت الزين اختلافات على أراضي وأملاك واتصلت لولاة الأمر وحصل التشكي على أمير جبل عامل حمد البيك بسبب أنه منع بيت الزين عن الشيخ.
موقف الشعراء هذه الحركة الشعبية التي استطاعت أن تزعزع زعيما عريقا وحاكما مستطيلا. والتي كان باعثها التوق إلى الحرية والعدل، والنقمة على الاستبداد والظلم، والتي نظمت تنظيما دقيقا بحيث تجرأت على التجمع وإعلان السخط، ثم على تآليف الوفد وإحكام الخطة، ثم الفوز بما أرادت. هذه الحركة الشعبية لا نجد فيها للشعراء أي موقف. فقد غابوا عنها وصمتوا صمتا كاملا. وليس فيما وصلنا من الشعر أي شئ يدل على أن الشعراء شاركوا الشعب نقمته، وساهموا في احتجاجه. وهذا غير عجيب ما داموا هم في الأصل شعراء حمد لا شعراء الشعب.
على أننا نجد في شعر أحدهم الشيخ حبيب الكاظمي الذي كان من أكثرهم التصاقا بحمد، ومن أعظمهم مودة عنده نجد في شعره قصيدة تدل على أن حمدا كان غاضبا عليه، وإنه نظمها استرضاء له واستعطافا، بل طلبا للعفو:
إن كانت العتبى تقدم لي بها * ذنب فان العفو عين ورود فما هو الذنب الذي أذى ارتكابه إلى أن يستحق غضبا يطالب بعده بالعفو.
ونحن نعلم أن صلة الكاظمي بحمد تعود إلى أيام خمول الأخير على حد تعبير الشيخ محمد مغنية في كتابه جواهر الحكم، وأنه لذلك قربه كل تقريب بعد نباهة أمره وانتصاراته وتوليه الحكم فلما ذا غضب عليه بعد هذا؟ أيمكن أن يكون ذلك لأن الشاعر ماشى خصوم حمد؟ إن صح هذا الأمر فإننا لا نحسب أن الكاظمي قد غامر بمماشاة الحركة الشعبية، بل ربما كان قد اعتقد بأفول نجم حمد أفولا نهائيا فماشى الحاكم الجديد، ثم انتهى الأمر على غير ما اعتقد.
وعدا هذه اللمحة في شعر الكاظمي فانا لا نلمح أي شئ في شعر غيره وسنتحدث بعد عن الكاظمي حديثا آخر.
الشيخ علي مروة (1) من شعراء عصر حمد المحمود، الشيخ علي مروة. وهو من الشعراء الذين كان لهم بحمد المحمود أوثق الصلات وممن ساهم في الحديث عن انتصاراته ووقائعه وسجل ذلك في ديوانه المخطوط. وقدم لإحدى قصائده بقوله: قلت أمدح الشيخ حمد سنة 1256 حين توجه إلى فتح بلاد صفد وعكا ومحاربة الدولة المصرية. فهو يحدد لنا بذلك تاريخ القصيدة وسبب نظمها. ثم إن في تلقيبه حمدا بلقب الشيخ دون لقب البيك دليلا على أن العامليين لم يكونوا قد استساغوا بعد اللقب الأعجمي الجديد وأنهم ظلوا يؤثرون عليه اللقب العربي القديم. ويبدأ قصيدته بالحديث عن راحلته التي أقلته إلى ممدوحه:
باتت على مضض السرى سهدا * مشغوفة في سيرها أمدا وبعد أن يسترسل بذلك في أربعة أبيات يصف فيها الراحلة والجو والأفق يقول:
حتى أتت أم القرى ورأت * في ربعها ليث الثرى حمدا وأم القرى المقصودة هنا هي تبنين.
وبعد أن يتحدث عن أسلاف حمد وأنه ورث عنهم العلياء يعود إلى مخاطبة حمد نفسه:
وأقمت من أمر النظام بها * ما كان من معوجة فسدا يا من بنى المجد الأثيل على * رغم العدى فاستظهروا حسدا فخرت بك الشامات وابتهجت * لما جلوت عن القلوب صدا فهو هنا يسير على النهج الذي غلب على شعراء حمد المحمود، والذي شقته لهم الظروف العسكرية والعوامل الحربية التي رافقت حياة حمد. فحمد في هذا الشعر ليس مفخرا لجبل عامل وحده، ولا الجبل وحده هو الذي بتهج بما فعل حمد، بل إن الشامات كلها هي الفخورة المبتهجة. ومن الطبيعي أن يقول الشاعر هذا القول لأن الذي عمله حمد لم تكن نتائجه مقتصرة على الجبل وحده، فالثورة على الحكم الإبراهيمي كانت عامة والنقمة كانت شاملة. ثم يحدد الشاعر العوامل التي أدت إلى هذا الافتخار والابتهاج بأنها كانت في تقويم إعوجاج النظام الذي كان قد فسد.
النظام ونحن مضطرون للوقوف عند كلمة النظام وقفة قصيرة فقد وردت هذه الكلمة في شعر شاعر آخر من شعراء حمد وهو يتحدث عن نفس الأحداث وردت بمعنى الجيش النظامي تمييزا له عن الجيش الشعبي والمتطوعين.