وكان بين العائدين سعيد حيدر.
وقصة سعيد حيدر هي قصة القضية العربية منذ انبثاق هذه القضية وتبلورها بعد سنة 1908، سنة إعلان الدستور العثماني، واستيلاء حزب الاتحاد والترقي على السلطة وفوران الدعوة الطورانية المبنية على سيادة العنصر التركي، والعمل على تتريك العرب. ولا بد لنا قبل التوغل في هذا الموضوع من عرض إجمالي لموقف العرب من الحكم التركي الذي سمي عثمانيا وامتد طيلة 400 عام المسألة القومية وقبل ذلك فإننا ننشر دراسة للدكتور وجيه كوثراني هي بحث شامل عن الصراع بين الفكر القومي الذي نما في تلك الفترة التي نتحدث عنها، وبين التوجه الاسلامي الذي ظل متمسكا به من يرون في الفكر القومي تناقضا مع توجههم.
قال الدكتور كوثراني:
برز الاشكال القومي في العصر الحديث (1) ولا سيما في القسم الواسع من العالم الاسلامي المرتبط آنذاك بالسلطنة العثمانية، في سياق تفاعل أزمة السلطنة أمام ضغط بنيتها الداخلية الآخذة بالتفكك وأمام تعثر مشاريع الاصلاح الإداري والسياسي فيها وأمام ضغط التدخلات الأجنبية الهادفة إلى إحداث مزيد من الخلل والتفكيك في بنية الاجتماع الاسلامي ووحدة دولته الأساسية. وكان اتجاه التتريك والعثمنة وهو أحد الاتجاهات الأيديولوجية السياسية التي حاولت أن تتصدى لاجتراح حلول لتلك الأزمة قد استطاع عبر انقلابي 1908 و 1909 أن يهيمن على السياسة العثمانية وأن يوجهها في مسار استحداث دولة مركزية عثمانية مرتكزة إلى غلبة القومية التركية في أجهزة الدولة ومراكز القرار السياسي والاقتصادي والثقافي.
وكان من نتائج انتصار هذا الاتجاه وغلبته في أجهزة الدولة ومؤسساتها أن استنفرت القوميات المبعدة عن مراكز القرار والممتهنة في لغتها وثقافتها ودورها الفكري والحضاري. وكان الاصلاحيون العرب الذين وقفوا إلى جانب الانقلابيين الأتراك في مواجهة الاستبداد الفردي ومن أجل تطبيق الدستور في طليعة المبعدين. وكانت اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم ولغة الشريعة والحضارة الاسلامية معا هدفا للتجريح والامتهان والتشويه. فجاء الوعي القومي العربي في حينه وفي جزء كبير من استجابته لهذا التحدي وعيا لهذا الاشكال الداخلي الذي عبر عنه آنذاك بازمة العلاقات بين العرب والترك. وفي هذا الجانب بالذات حمل الوعي العربي مضمونا إسلاميا يتجلى في دفاع بعض المفكرين العرب عن اللغة العربية بصفتها لغة للشريعة وعن ضرورة وحدة العرب والترك وبقائهم في دولة واحدة بسبب الحرص على الارتباط بالاسلام والحفاظ على ما تبقى من دولته.
ومع ذلك فإنه لا بد من ذكر جوانب أخرى اندمجت في هذا الاشكال القومي وأعطته طابعا انفصاليا عن الدولة العثمانية أو طابعا معاديا للاسلام. من هذه الجوانب:
تقاطع الدعوات الانفصالية مع مشاريع التقسيم الاستعمارية التي حملتها سياسات الدول الكبرى آنذاك.
اندماج بعض الداعين للاستقلال عن الدولة العثمانية باسم العروبة في سياسات السفارات والقنصليات والوزارات الأجنبية. وكان من بين هؤلاء أعضاء بارزون في الجمعيات السياسية العربية وفي المؤتمر العربي الأول 1913.
جاذبية الفكر الليبرالي القومي الغربي للنخب المحلية في وقت رزح فيه العالم الاسلامي تحت نير حكومات استبدادية تسترت بالاسلام وقدمت نفسها حامية للدين.
هذه الجوانب شكلت في لحظة انتصار الغرب الاستعماري في الحرب العالمية الأولى العوامل المرافقة لعملية تقرير المصير للعديد من مناطق العالم الاسلامي.
ولذلك التبس أمر هذا التيار القومي وبدا عاملا مساعدا في التجزئة والتفكيك حينذاك.
والواقع أنه إذا كانت هذه الصورة صحيحة إلى حد كبير آنذاك، فان دعوة العروبة لم تلبث أن اكتسبت بعد الحرب العالمية الأولى ولا سيما في المشرق العربي بعدا وحدويا معاديا لسياسة التجزئة الإقليمية والطائفية والمذهبية التي سارت عليها السياسات الغربية منذ ذلك الحين وحتى آخر المرحلة الناصرية، ولم تنفصل العروبة على المستوى الشعبي والجماهيري عن بعدها الاسلامي آنذاك.
السؤال كيف واجهت التيارات الاسلامية المعاصرة هذا الاشكال القومي في عهديه العثماني والغربي؟
لقد تشكل في سياق تفاقم أزمة السلطنة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تيار فكري إسلامي نجد في مواقف أعلامه ونصوص كتابه أجوبة إسلامية واضحة على هذا الاشكال. منذ صدور العروة الوثقى بقلمي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى كتابة عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد.
وأمام هذا الاشكال المزدوج للحالة القومية المعاشة في مطلع القرن العشرين كان التيار الاسلامي المعبر عنه عبر المفكرين والفقهاء الذين أشرنا لهم يقدم إجابات واضحة عن السؤال: كيف نتجنب استخدام الوعي القومي أداة للتجزئة ومطية لشيوع الأفكار المعادية للاسلام؟ وكيف يمكن للحالة القومية أن تندرج في وعي إسلامي أشمل وأكمل؟
لقد تطرق جمال الدين الأفغاني إلى هذه المسألة في العديد من مقالاته وخاطراته. وهو إذ يجعل من الرابطة الاسلامية الرابطة الأشمل والاسمي والأعدل والأقدس، لا يغفل أهمية رابطة الجنس ويعني بها الرابطة القومية في مسار التشكل التاريخي للشعوب والأمم. ولكنه مع ذلك لا يعتبرها مندرجة في حقائق الوجدانيات الطبيعية، بل من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها الضرورات (2). والضرورات هذه تكمن في وحدة